للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ - أن العبد لا يدخل الجنة بعمله، وإنما يدخلها بفضل الله ورحمته بسبب عمله. قال تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ ... الآية [فاطر: ٣٥].وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ... سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (١).فإذا كان العبد لا يدخله الجنة عمله لم يستحق بعمله على الله شيئاً. ثم إن كون العبد لا يستحق بعمله على الله شيئاً لا يتنافى مع الحق الذي أوجبه الله على نفسه. قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ بن جبل: ... هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ... ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: أن لا يعذبهم)) (٢). لأن هذا الحق أوجبه الباري على نفسه ولم يوجبه العبد عليه بعمله.

إضافة إلى ما ذكرنا؛ فإن الوجوب على الله بمعنى: أن يوجب أحد عليه شيئاً باطل، وقد سبق أن بينا وجه بطلانه في موضع سابق. وإذاً فإذا كان المراد بالوجوب في الآية بحكم ما أوجبه الغير عليه، فهذا باطل؛ إذ لا سلطان فوق سلطانه تعالى، وإن كان بحكم ما أوجبه على نفسه، فهذا حق وله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء (٣)، وإذا أرادوا هذا الوجه من الوجوب سقط استدلالهم بالآية، والله أعلم.

الشبهة الثانية: يقول القاضي عبدالجبار: "اعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة، فلابد من أن يكون في مقابلها من الثواب ما يقابله؛ بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ في الكثرة حداً لا يجوز الابتداء بمثله، ولا التفضل به ... وإنما قلنا: إن هذا هكذا؛ لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما ذكرناه، كان يكون القديم تعالى ظالماً ... " (٤).

المناقشة:

أولاً: هذه الشبهة تنبني على أن الإنسان إنما يدخل الجنة مستحقاً بعمله، وقد بينا في الرد على الشبهة الأولى بطلان هذا القول؛ وهو أن الإنسان لا يستوجب بعلمه على الله شيئا. وإذا لم يستوجب بعمله على الله شيئاً لم يتصور ظلم من الله لعبده عندما لا يثيبه على عمله؛ لأن الظلم لا يكون إلا في منع واجب مستحق للغير، والله سبحانه وتعالى لا يستحق عبده عليه شيئاً.

وكونه سبحانه وتعالى أوجب على نفسه ثواباً لعبده لا يتعارض مع هذا، لأنه لو منع ما أوجب لم يعد ظالماً كما لو أوجب إنسان لإنسان آخر مبلغاً من المال ثم بدا له أن لا يعطيه إياه، لم يعتبر عدم إعطائه إياه ظلماً، فكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى. ثانيا: أن التكليف تصرف في عبيده ومماليكه، والمالك إذا لم يعط مملوكه أجراً مقابل خدمته لم يعد ظالماً؛ فكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى فإن له المشيئة المطلقة إن شاء أثابهم بمقتضى فضله ورحمته، وإن شاء عاقبهم بمقتضى عدله ولا يمنعه من ذلك مانع، ولا يقدح في إلهيته (٥).

وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

المصدر:المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص ٢١٣


(١) رواه البخاري (٦٤٦٧) , ومسلم (٢٨١٨).
(٢) رواه البخاري (٦٢٦٧) , ومسلم (٣٠).
(٣) انظر ((تفسير المراغي)) (٤/ ١٣٥).
(٤) ((شرح الأصول الخمسة)) (ص٦١٤، ٦١٥).
(٥) انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص١٨٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>