للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما اقتباس المعتزلة من تراث الديانة اليهودية والمسيحية فليس هذا مكانه لأن الحديث عن العقل والعقلانية التي تميزت بها الثقافة اليونانية دون غيرها فلهذا قصرت القول على كيفية استفادتهم منها. ثانياً: ومما جعلهم ينحون هذا الاتجاه العقلاني هو ضعفهم في مجال الرواية وجهلهم لعلم الحديث النبوي واقتصارهم على آيات القرآن وبعض الأحاديث التي رأوا أنها تؤيد أقوالهم. فهذا الضعف في علم الحديث قد ألجأهم إلى المعقولات ليعوضوا بها ما عندهم من نقص ويسدوا به ثغرات مذهبهم. وهذا مصداق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وتفلتت منهم فلم يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا علم لنا فعارضوا السنة برأيهم إياك وإياهم) (١).

ومما صد كثيراً منهم عن طلب الحديث والسعي وراء حلقاته ما رأوه من كثرة الوضع وانتشار الأحاديث الضعيفة بين رواة الحديث واختلاطها بالصحيح منه وكان من تلك الأحاديث ما يعارض المعقول فظنوا لجهلهم أن لا ضابط يفرق بين الصحيح والسقيم منها. وإن زعم ذلك أهل الحديث. فرأوا أن الرأي الصائب أن يدعوا صحيحها وسقيمها وأن يقتصروا على ما يوافق بدعهم وآراءهم منها. ولا يخفى على دارس أن الأحاديث قد دُسَّ في جملتها –لأغراض شتى- الموضوعات والمكذوبات على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى راجت على بعض العلماء فاحتجوا بها لا في الفقه وحده بل في أمور العقيدة. خاصة مسائل الصفات ولذا أنكر بعض المحققين كابن قدامة تلك الأحاديث الضعيفة والموضوعة وروايتها ضمن عقائد السلف. قال ابن قدامة: (ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصحيحة الثابتة بنقل العدول الثقات التي قبلها السلف ونقلوها ولم ينكروها ولا تكلموا فيها. وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام أو الأحاديث الضعيفة إما لضعف رواتها أو جهالتهم أو لعلةٍ فيها فلا يجوز أن يقال بها ولا اعتقاد ما فيها بل وجودها كعدمها. وما وضعته الزنادقة فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح واطراح ما سواه ومن كان عامياً ففرضه تقليد العلماء وسؤالهم لقول الله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [الأنبياء:٧] وإن أشكل عليه علم ذلك ولم يجد من يسأله فليقف وليقل: آمنت بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يثبت بها شيئاً، فإن كان هذا مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آمن به وإن لم يكن منه فما آمن به) (٢).وقال شيخ الإسلام ابن تيمية منكراً على أبي يعلى روايته لبعض تلك الأحاديث الضعيفة في الصفات (والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتاً عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج) (٣).

لكن لا يعني رواج تلك الأحاديث على قلة من العلماء –غير المحدّثين- اجتهدوا في إدخالها ضمن عقائد السلف أن ندع الحديث جملة ونفر منه إلى غيره. فهل هذا إلا تولية للأدبار عن الدين كله؟ بل كان الأولى بهؤلاء أن يجتهدوا في معرفة الأحاديث الصحيحة التي لا تعارض المعقول أبداً ويميزوا بينها وبين ضعيف الحديث كما فعل جهابذة الحديث ونقاده الذي اصطفاهم الله لذلك.


(١) ((الحجة)) (١/ ٢٠٥).
(٢) ((ذم التأويل)) (٤٧).
(٣) ((درء التعارض)) (٥/ ٢٣٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>