للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما خلفه أبو حمزة الخارجي فله خطبة مشهورة خطبها حين دخل المدينة المنورة غازيا وصف في هذه الخطبة أصحابه بالعبادة قائلا: " يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: شباب أحداث وأعراب جفاة، ويلكم يا أهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابا أحداثا، شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضية عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا الله عز وجل أنفسا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا: خوفا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة ". ........ وقد روي عن ابن ملجم ما يحير العقل من تناقضهم في سلوكهم الديني، فبينما هم شديدو الغلو في الدين والعبادة إذا هم شديدو الحقد على خيار الصحابة ومستحلون لدمائهم. فهذا ابن ملجم يقتل علي بن أبي طالب، ومع ذلك يقف عند القصاص منه كأثبت الناس وأعبدهم، يقول ابن الجوزي: " فلما مات علي رضي الله عنه أخرج ابن ملجم ليقتل، فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم، فكحل عينيه بمسمار محمي فلم يجزع وجعل يقرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق: ١ - ٣] حتى ختمها، وإن عينيه لتسيلان فعولج على قطع لسانه فجزع، فقيل له: لم تجزع، فقال: أكره أن أكون في الدنيا مواتا لا أذكر الله " (١).ومثله في هذا عروة بن حدير الذي تحدثنا عنه آنفا، فبينما هو يتبرأ من خيار الصحابة علنا دون خوف أحد إذا به من أعبد الناس وأصومهم، وقد قتله ابن زياد بعد أن تمت بينهما المناقشة الحادة التي يحكيها الشهرستاني بقوله: " وعروة بن حدير نجا بعد ذلك من حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية، ثم أتي به إلى زياد بن أبيه ومعه مولى له، فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال فيهما خيرا، وسأله عن عثمان فقال: كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها، وشهد عليه بالكفر، وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فقال: كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر، وسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا ثم سأله عن نفسه فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوة وأنت فيما بينهما بعد عاص ربك، فأمر زياد بضرب عنقه ثم دعا مولاه فقال له: صف لي أمره واصدق، فقال: أأطنب أم اختصر؟ فقال: بل اختصر، فقال: ما أتيته بطعام في نهار قط ولا فرشت له فراشا بليل قط " (٢).

.......... ولقد كان خليقا بهم وهم على هذه الدرجة من العبادة والورع أن يعفوا عما وقعوا فيه من المحارم وما لغوا فيه من دماء المسلمين، ولكن تدينهم على هذا النحو الذي كانوا عليه ليس هو الصورة الصحيحة للتدين المثمر الذي يحول بين صاحبه وبين محارم الله.

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٢٤٠


(١) ((تلبيس إبليس)) (ص٩٤).
(٢) ((الملل والنحل)) (١/ ١١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>