للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقد فهموا من هذا الحديث نفي الإيمان بالكلية عن من فعل شيئاً مما ذكر في الحديث، وهذا لا حجة لهم فيه، فإن الحديث –كما يذكر العلماء- إما أن يكون وارداً فيمن فعل شيئاً مما ذكر مستحلاً لتلك الذنوب، أو أن المراد به نفي كمال الإيمان عنهم، أو أن نفي الإيمان عنهم مقيد بحال مواقعتهم لتلك الذنوب.

ولو كانت تلك الكبائر تخرج الشخص عن الإيمان لما اكتُفي بإقامة الحد فيها، ولهذا فقد ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاء، ولا يخاض في معناها. وقال الزهري في مثل هذه الأحاديث: (أمروها كما أمرها من قبلكم) (١).وقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر)) (٢).

والكلام في أهل الكبائر مبسوط في موضعه من كتب التوحيد وكتب الفرق، والمقصود هنا هو التنبيه على خطأ الخوارج فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب من المسلمين، مخالفين ما تضافرت النصوص عليه من عدم كفر مرتكبي الذنوب كفر ملة إلا بتفصيلات مقررة في مذهب السلف.

وهذا هو الرأي الثاني من آراء الخوارج وهو للإباضية، وهم يرون في ذلك أن من ارتكب كبيرة من الكبائر فهو موحد إذ أنه غير مشرك لكنه ليس بمؤمن إذ أنه يخلد في النار خلود الكافرين إذا مات وهو على كبيرته، وهو لذلك كافر كفر نعمة لا كفر ملة. يقول قطب الأئمة منهم في رسالته (المخطوطة) لدى سالم بن يعقوب الجبري: "وأما كون مرتكب الكبيرة موحداً غير مؤمن فهو مذهبنا" (٣).ويقول الأشعري عنهم: "وقالوا إن كل طاعة إيمان ودين وإن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين" (٤).وقال أيضاً: "والإباضية يقولون: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها" (٥).وكذا الشهرستاني فيما يرويه عن الكعبي أن هذا الرأي هو رأي الإباضية بالإجماع، وهو ما أكده الحارثي الإباضي (٦).

ولا ندري وجهاً للتفرقة بين التوحيد والإيمان في حكم مرتكب الكبيرة، حيث يثبتون له التوحيد وينفون عنه الإيمان. فالتوحيد إيمان بالله الواحد، اللهم إلا أن يكون مرادهم هو وصفه بالتوحيد لمجرد نطقه بكلمة التوحيد ولو ظاهراً.

ثم إنهم عندما ينفون عن المذنب الإيمان يلزمهم القول بتكفيرهم له كفر ملة فنفي أحد النقيضين يستلزم ثبوت الآخر، فما وجه حكمهم على الذنب بالتكفير كفر نعمة لا كفر ملة وهو عندهم غير مؤمن ومخلد في النار كما هو مذهب عامة الخوارج، ثم إنهم يستدلون على عدم إيمانه بخلوده في النار، بينما أن خلوده في النار إنما هو نتيجة لعدم إيمانه وهذا خلط وتناقض في الرأي وما ذكرناه سابقاً من حكم الإباضية على مرتكبي الكبائر بالخلود في النار خلود الكافرين إنما هو في شأن من مات مصراً على كبيرته، وفي هذا يقول النفوسي من علمائهم:

ودنا بإنفاذ الوعيد وحكمه ... وتخليد أهل النار في النار والهون

فحد الكبير الحد في عاجل الدنا ... وسوء عذاب النار يا شر مسكن


(١) انظر: ((شرح النووي لصحيح مسلم)) (٢/ ٤١ - ٤٢).
(٢) رواه البخاري (٥٨٢٧)، ومسلم (٩٤). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(٣) نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص٤٨٤).
(٤) ((المقالات)) (١/ ١٨٥، وانظر: ((الإباضية بين الفرق)) (ص٣٢٠).
(٥) ((المقالات)) (١/ ١٨٩، وانظر (ص٢٠٤) وانظر: ((الفصل)) لابن حزم (٤/ ٤٦) وانظر ((العقود الفضية)) (ص٢٨٥).
(٦) ((الملل والنحل)) (١/ ١٣٥) وانظر: ((العقود الفضية)) (ص١٧٠، ص٢٨٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>