للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا هو ما يذهب إليه الخوارج وهو باطل أيضا، لأن الله تعالى قد أثبت الإيمان للعصاة الفسقة في أحكام كثيرة نذكر منها على سبيل المثال ما ورد في آية اللعان بين الزوجين فإن مما لا شك فيه أن أحد الزوجين كاذب فيما نفاه عن نفسه، وإذا كان كاذباً –والكذب كبيرة- فإنه فاسق كما نص القرآن الكريم على فسقه إن كان كاذبا، وقد شرع الله بينهما اللعان لأن بقاء الزوجية قبل اللعان غير منتف مع فسق أحد الزوجين – كما قلنا. قال في إبانة المناهج: "فلو كان الفسق كفرا والكافر فاسقا لكانت الزوجية مرتفعة بينهما؛ إذ لا مناكحة بين مؤمن وكافر سيما إذا كان كفره ردة بعد إسلام متقدم، فكان يجب أن لا يصح وقوع الملاعنة بينهما؛ لأن الملاعنة إنما شرعت بين الزوجين لا بين الأجنبيين. فلما علمنا صحة اللعان بين القاذف وزوجته؛ علمنا أنه لم يكفر واحد منهما مع أن أحدهما فاسق بلا مرية، وذلك يوضح بطلان مذهب الخوارج في أن كل فاسق كافر وفي ذلك غنى لكل منصف" (١).

ثم إنه لم ينقل عن الصحابة ولا عن التابعين أنهم حكموا في الفساق بحكم الكفار في الحقوق والواجبات، بل اعتبروا الفاسق مسلما وعاملوه معاملة المسلمين في جميع الحقوق. يقول جعفر بن أحمد مبينا الفرق بين معاملة الكافر والمسلم عند سلف الأمة: "ومما يدل على ذلك ما ظهر من إجماع الصحابة والتابعين؛ فإنه معلوم من أحوالهم أنهم لم يحكموا في الفاسق بأحكام الكفار فلم يحرموا ميراثه من المسلمين، ولا حكموا بحرمة زوجته عليه لأجل فسقه، ولا منعوا من دفنه في مقابر المسلمين، وهذا أظهر من أن يخفى على متأمل لولا شدة الميل عن الصواب والانحراف وقوة التعصب للآباء والأسلاف" (٢).

هذا وقد تبين مما سبق أنه لا حجة للخوارج في كل ما استدلوا به من أحاديث على كفر مرتكب الكبيرة إذ أن تلك الأحاديث لم تدل دلالة صريحة على كفره كفر ملة، بينما نجد في الجانب الآخر ما يضاد هذا القول من نصوص صريحة واضحة لا تحتمل أي تأويل أو جدل؛ ذلك أن قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [النساء:٤٨]، فهذه الآية بيان واضح بأن الله يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك به تعالى، وهذا هو القول الحق في هذا الباب وهو الاعتقاد بأن الله يغفر الذنوب مهما كانت ما دام أن العبد قد اجتنب الإشراك بربه الذي هو المحبط الوحيد للعمل. وأما من مات على كبيرة غير تائب فأمره إلى الله إن شاء عذبه ثم أخرجه إلى الجنة برحمته، وإن شاء عفا عنه، ولا يخلد في النار غير الكافرين (٣).


(١) ((إبانة المناهج)) (ص١٦٤).
(٢) انظر: ((اللآلئ البهية)) (ص٧٦).
(٣) ((صحيح البخاري)) (١/ ١٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>