للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتيه مرتكب الكبيرة فيقيم عليه الحد ولا يطلب إليه أن يعلن إسلامه من جديد، ولو كان مرتكب الكبيرة كافرا لاستتابه عليه الصلاة والسلام، ولطلب منه إعلان إسلامه من جديد. وهذا ما لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في كبيرة ولا في صغيرة، على ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من جلد الزناة أو رجمهم، وجلد أهل الخمر. كما أنه لم ينقل عن الصحابة ولا عن أحد من العلماء أنه قال بتكفير أهل الذنوب كفر ملة، أو قال بتخليدهم في النار. وأما ما ورد من الأحاديث التي تصف من اقترف عملا من أعمال الجاهلية بأنه منهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين عير رجلا بأمه: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) (١)؛ فإن هذا لا يدل على أن من وجدت فيه خصلة من خصال الجاهلية أنه يكفر بذلك، وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا الحكم بقوله: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك" (٢)، فلا دلالة للخوارج على تكفير أهل الذنوب وتخليدهم في النار. فمذهب أهل السنة والجماعة إذا أنه لا يخلد أحد من المؤمنين في النار مهما كان جرمه، فإن تاب فلا كلام فيه، وإن لم يتب فأمره مفوض لربه. قال النووي: "واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال ... وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً ... وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة ... وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص يحصل بها العلم القطعي، فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع" (٣).

ولكن لماذا تمسك الخوارج ببدعة القول بتكفير العصاة وتخليدهم في النار، يقول الدكتور عزت عطية جوابا عن هذا السؤال:"الواقع أن القول بهذه البدعة كان وسيلة ساذجة لتجويز قتل المخالفين من المسلمين والتنفيس عن الأحقاد الكامنة في النفوس والوصول إلى أغراض أخرى لهم عن هذا الطريق" (٤).ومع موقف الخوارج هذا من خصومهم من المسلمين إلا أننا نستبعد أن يكون هو الدافع إلى تكفيرهم العصاة، فقولهم هذا مبني على مذهبهم في الإيمان وعلاقة العمل به، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الذي حمل الخوارج على القول بتخليد أهل الكبائر في النار أنهم اعتقدوا أن المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، فمتى ذهب بعض ذلك فيلزم تكفير أهل الذنوب" (٥) والقول بذهاب الإيمان بذهاب بعض الأعمال قد نفاه أهل السنة ولم يقولوا به؛ قال ابن تيمية: "فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته" (٦).

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٣٨٦


(١) رواه البخاري (٣٠)، ومسلم (١٦٦١). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(٢) شرح النووي (١/ ٢١٧).
(٣) ((البدعة)) (ص٤٠٨).
(٤) ((الإيمان)) (ص١٨٥، وانظر: ((الإبانة للأشعري)) (ص١٠).
(٥) انظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص١٤).
(٦) ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (١/ ١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>