فهو يختلف مع الأستاذ أبي زهرة في تعليل ذلك الاندفاع الذي تميز به الخوارج. وأياً كانت دوافع الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كانوا متحمسين في القياس به مستعملين في ذلك كل ما في إمكانهم من قول وفعل، فقد كانوا يستعملون فصاحتهم وقوة بيانهم لإظهار معايب خصومهم واضحة أمام الناس لإثارة مشاعرهم ضدهم وبالتالي لتهوين الخروج المسلح عليهم بحجة أنهم ظلمة جائرون مرتكبون لما حرم الله من معاص ومنكرات يجب عليهم تغييرها كما يفرضه عليهم الدين، يصفهم صاحب (كتاب الأديان والفرق) بأنهم: " أول من أنكر المنكر على من عمل به، وأول من أبصر الفتنة وعابها على أهلها لا يخافون في الله لومة لائم " (١).
وهكذا فقد اعتبروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمراً جماعياً يجب على الكل القيام به في أي وقت وعلى أي حال، كما يشهد بذلك فعلهم.
والواقع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – كما ذكرنا من قبل – أصل من أصول الدين، مجمع على وجوبه بين الأمة لما ورد من نصوص في كتاب الله وسنة نبيه توجب القيام به؛ حفظاً لكيان الأمة من التردي في مسالك الرذيلة، ونصحاً للناس؛ لئلا يصبح المجتمع على اتفاق فيما بينهم على ارتكاب الجرائم وانتهاك الأعراض، فتحل عليهم نقمة الله وغضبه.
ومن لطف الله أن جعل وجوبه على الكفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الجميع، وأنه لم يكلف أحداً بهداية أحد بل أوجب تعالى إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعل نتيجة ذلك إليه تعالى وحده؛ لئلا يهن الشخص وييأس من استجابة الناس له؛ فيترك فضيلة القيام الأمر.
وقد يخدع الشيطان بعض الناس فيريه أنه هو نفسه على محذور فكيف ينصح الآخرين، وهذا من وساوس الشيطان ومكائده التي يريد بها حصر كل إنسان في نفسه فقط؛ ولهذا فيجب على الشخص أن يدعو إلى ذلك وإن كان على تقصير في نفسه إذ الكمال لله وحده تعالى، ولعل في نهيه لغيره ما يعود عليه بالخير فيرتدع عن كثير مما ينهي الناس عنه حياء من الله.
وقد يظن بعض الناس بأن القيام بتلك المهمة إنما يتولاها من كان من أهل السلطة فقط، وهذا خطأ؛ إذ أن الله لم يسند القيام به إلى أحد بخصوصه، سواء كان حاكماً أو محكوماً، أفراداً أو جماعات، فإن كل واحد يتعين عليه القيام بما يعرف من أمر الإسلام؛ لأن هناك منكرات ظاهرة يعرفها كل شخص فلا يعذر بترك الإنكار حين يتعين عليه ذلك بحجة أنه غير عالم.
وهناك منكرات قد تخفى على بعض الناس بحيث لم يتبين له الحكم فيها، وهنا يسقط عنه وجوب تغييره، وعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يسير على ما نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق في ذلك؛ حيث جعل لتغيير المنكر مراتب ودرجات وأولها التغيير باليد وهو أجدى الطرق وأحسنها، فإن لم يتيسر ذلك انتقل إلى ذلك إلى الدرجة الثانية وهو التغيير باللسان فحسب أثمر ذلك أم لم يثمر، فإن كان المجتمع قد تشبع بحب الفساد ووصل الحال إلى حد لا يمكن معه الإصلاح باليد أو باللسان؛ انتقل إلى أضعف الدرجات وهو الإنكار بالقلب، وهو إن كان ليس تغييراً للمنكر إلا استشعار للمسؤولية وإنكار على المفسدين حتى يشعروا بأنهم عزلة عن المجتمع الإسلامي، ولابد أن يقلعوا عن فسادهم إذا أرادوا العودة إلى مجتمعهم، ومن ناحية أخرى فإن في الإنكار بالقلب ضمان لعدم تأثر الصالحين بفساد المفسدين.
وفيما يتعلق بمسلك الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء ما قدمنا من حدود الشريعة؛ فإننا نجد أن الخوارج لا لوم عليهم في مناداتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يلامون على ما تميزوا به من اندفاع وتهور في تغيير المنكر على أي حال دون النظر في عواقب الأمور من تحقيق لمصلحة أو دفع لمضرة، فكانوا يمتشقون السيوف بمجرد ظهور أي مظلمة أو ذنب مهما كان، ولهذا فقد ارتكبوا في سبيل تحقيق ذلك أفظع الجرائم وأشنعها، وارتكبوا من المنكرات في إزالة ما يرونه منكراً ما يزيد على أضعافه، وجلبوا من المضار أكثر مما أرادوا النفع، وهذا هو ما يبعد بهم عن هدي الإسلام في إقامة تلك القاعدة الجليلة.
المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٤٣٧
(١) ((كتاب الأديان)) (ص ٩٧).