للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد حدث هذا وعبد الله بن خباب ينظر إليهم، فلما شاهد فعلهم ظن أن وراءه دينا وعقلا؛ فطمع في العفو عنه وإطلاقه من قبضتهم؛ لأنهم اعتبروا قتل الخنزير من الفساد في الأرض فما الظن بقتل ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولكنهم كانوا على عكس ما رأى منهم وأمل، فقد ذبحوه ولم يندموا على قتله كما ندموا على قتل الخنزير، وكان الأولى بهم أن يندموا على قتل النفس المحرمة، ولكنه الجهل واتباع الهوى. وقد كان الاتصاف باليهودية والنصرانية من الأمور المنجية من قتلهم، فمن قال إنه يهودي أو نصراني أو على أي دين كان آمن عندهم، غير مدعي الإسلام؛ فمما يذكر من حيل الناس في النجاة من قبضتهم ما يرويه الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: "بينما ابن عرباض يمشي مقدما لطيه إذ استقبلته الخوارج يجزون الناس بسيوفهم، فقال لهم: هل خرج إليكم في اليهود شيء؟ قالوا: لا، قال: فامضوا راشدين، فمضوا وتركوه" (١).ويصف المبرد بعض تلك المواقف الخاطئة بما يحكيه عن واصل بن عطاء حينما كان هو ورفقته سائرين فاجتازوا بالخوارج؛ يقول المبرد: "وحدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا: شأنك، فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده، فقالوا: قد أجرناكم، قال: فامضوا مصاحبين، فإنكم إخواننا، قال: ليس ذلك لكم قال الله تبارك وتعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة: ٦]، فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذلك لكم، وصاروا بأجمعهم حتى بلغوهم المأمن" (٢).

وقد مر رجل يسمى الفرز بن مهزم العبدي بجماعة من الأزارقة فسألوه عن خبره وأرادوا قتله، فأقبل على قطري وقال: إني مؤمن مهاجر فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها، فخلوا عنه، وفي ذلك يقول:

فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي ... إلى قطري ذي الجبين المفلق

وحاججتهم في دينهم فحججتهم ... وما دينهم غير الهوى والتخلق (٣)

وقال ابن الجوزي في ذلك: "قال القرشي: وحدثنا أبو جعفر المدايني قال: خرج قوم من الخوارج بالبصرة فلقوا شيخا أبيض الرأس واللحية، فقالوا له: من أنت؟ قال: أعهد إليكم في اليهود بشيء؟ أو بدا لكم في قتل أهل الذمة؟ قالوا: اذهب عنا إلى النار" (٤).ومن هنا يتبين لنا أن أحمد أمين كان محقا حين يصفهم بأنهم "محدودو النظر ضيقوا الفكر في نظرهم إلى مخالفيهم" (٥).

ويجدر بنا في نهاية هذه المسألة أن نذكر أن النجدات خالفوا الخوارج في حفظهم لدماء أهل الذمة فساووا بينهم وبين مخالفيهم من المسلمين في إهدار دمائهم.

المصدر:الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص٥١٠


(١) ((العقد الفريد)) (٢/ ٤٦٤).
(٢) ((الكامل)) للمبرد (٢/ ١٠٦) ((الأذكياء)) (ص١٢٢).
(٣) ((شرح نهج البلاغة)) (١/ ١٦١).
(٤) ((الأذكياء)) لابن الجوزي (ص١٢٨).
(٥) ((ضحى الإسلام)) (٣/ ٣٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>