للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهناك أسباب كامنة وراء تفش الظاهرة الكلامية منها:- تسامح المسلمين: فلقد كانت شروط الفتح الإسلامي تسمح ببقاء بذور الحضارات المختلفة عند طوائف كبيرة من الأهالي الذين واصلوا التمتع بعاداتهم وقوانينهم على شريطة أن يعطوا الجزية، وكان طبيعياً أن تتأسس الروابط والعلاقات بين الفاتحين وأهل البلاد في وقت مبكر سواء أكان ذلك بسبب الحوار أم بسبب اعتناق الإسلام، وكان قد التحق بالإسلام طوائف وفئام من كل ملة، دخلوا حاملين لما كان عندهم من فلسفات وديانات راغبين أن يصلوا بين الإسلام وبين تلك الأديان والفلسفات، فثارت الشبهات بعد ما هبت على الناس أعاصير الفتن (١)، ولاشك أن هذا التمازج والاختلاط والتوسع في الفتوحات مع السماح ببقاء بذور ورواسب الحضارات السابقة كان له الأثر في نشأة علم الكلام ولم يستطع المصلحون أن يواجهوا تلك الفتنة وإخمادها بل على العكس من ذلك.- ما إن فتحت البلدان على المسلمين، وتوسعت الرقعة التي يظلها الإسلام بظله، حتى تأثر المسلمون بما وفد عليهم من عوامل ومؤثرات، وحتى اختلطوا بأبناء الأمم المفتوحة الذين كانوا متأثرين بسابق حضارتهم، وما تحمله ثقافتهم ودياناتهم من أفكار ومعتقدات بل ومناهج نظر وبحث، تختلف باختلاف تلك الأمم، إلى جانب أن الكثير من أبناء الأمم قد دخلوا الإسلام حاملين ذلك التراث المثقل بركام التصورات القديمة، والمناهج الضالة فكانوا كبذور فتنة ألقيت في تربة الإسلام (٢)، فتأثر بهم من تأثر من أبناء المسلمين وركبوا من المناهج مراكب الوافدون، فجاءت الثمار تحمل مناهج استدلال غير المنهج الذي عرفه السلف من الصحابة والتابعين، ولا يغيب عن أذهاننا أن بعض من دخل في الإسلام لم يدخل إلا لبث الشبهات وزلزلة العقائد ودس المناهج الضالة، والمتأمل في رؤوس الضلالة ورواد البدعة سيجد أن أغلبهم من بقايا الديانات والفلسفات التي سحقها الإسلام مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية.- وهناك سبب آخر من أهم أسباب انتشار الظاهرة الكلامية، ذلك السبب هو حركة التعريب – الترجمة – لكتب الفلسفة والمنطق، وهي من أعظم أبواب الشر التي فتحت في زمن المأمون، فكثر تعريب كتب فلاسفة اليونان الأوائل مما كان له أسوأ الأثر في تكدير صفو العقيدة، وبلبلة الناس وشغلهم بالمنطق الإغريقي عن الكتاب والسنة حيث ترجمت العديد من الكتب مثل كتاب (الطبيعة) وكتاب (ما بعد الطبيعة) لأرسطو، وترجم كتاب (كليلة ودمنة) وكثير من كتب الكيمياء والطب والنجوم مثل (المجسطي)، وكتاب (الحكم الذهبية) لفيثاغورث، ومصنفات أبقراط وجالينوس وكتاب (طيماوس) لأفلاطون، و (السياسة) له أيضاً، وكتاب (النواميس)، و (جوامع المحاورات) له أيضاً (٣).


(١) عامر النجار ((الخوارج)) (ص: ٦٥).
(٢) محمد العبده وطارق عبدالحليم ((المعتزلة بين القديم والحديث)) (ص: ١١ - ١٢).
(٣) عامر النجار ((الخوارج)) (ص: ٧٣ - ٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>