للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١ - أن أبا الحسن الأشعري لم يكن صورة طبق الأصل لابن كلاب ومدرسته، وأتباعه له في أصل معين لا يعني أنه في جميع آرائه وأقواله كان متابعا له، فمثلا مع أن الأشعري قال بنفي حلول الحوادث بذات الله وهو ما يسمى بالصفات الاختيارية القائمة بالله، وهذا هو الأصل الذي قال به ابن كلاب ومدرسته، إلا أن الأشعري خالف ابن كلاب في جوانب من مسألة الكلام التي هي أهم المسائل، فإنه قال بأزلية الأمر والنهي، أما ابن كلاب فقال بحدوث ذلك، وعدم التطابق بين آراء الرجلين له دلالته في تحديد نسبة المذهب إلى أحدهما، خاصة وأن مسألة الكلام من أهم المسائل التي تميز المذهب الأشعري لأن غيرها من المسائل قد شارك غير الأشاعرة القول فيها.٢ - أن ابن كلاب جاء في وقت محنة أهل السنة من جانب المعتزلة، ولما زالت المحنة برز في مجتمع الإسلام كعلم من أعلام أهل السنة الإمام أحمد ابن حنبل، أما ابن كلاب ومن اتبعه فردودهم على المعتزلة والجهمية وإن كانت قوية إلا أنهم شابوها بشيء من البدع، فإذا أضيف إلى ذلك تحذير أئمة أهل السنة كالإمام أحمد وغيره من هؤلاء، فلا شك أن قدرة ابن كلاب في التأثير على الناس ستكون محصورة في نطاق معين لا تتعداه، وهذا ما حدث (١).

أما أبو الحسن الأشعري فقد جاء بعد هدوء العاصفة، وركون الناس إلى أن مذهب أهل السنة هو الغالب المسيطر، لذلك لما قام الأشعري في الرد على المعتزلة كانت الأوضاع مهيأة لاشتهاره وتبني مجموعة من الأعلام لمذهبه.٣ - من الأمور المهمة قصة انتقال الأشعري عن الاعتزال إلى مذهب السلف فمن المعلوم أنه قد بلغ مكانة ومنزلة في مذهب المعتزلة حتى صار صنوا لأحد أعلامها، ينوب عنه في الدروس والمناقشات الاعتزالية، وحتى صار يؤلف الكتب لدعم مذهبهم، وهي كتب صارت معتمدة في مذهبهم حتى قال الأشعري عن أحدها بعد أن نقضه ورد عليه: "إنه لم يرق لهم كتاب مثله" (٢)، وفي ظل هذه الأوضاع التي تنبئ عن وجود نهضة اعتزالية – تعيد إليها سابق عزها – إذا بالعالم الإسلامي يفاجأ بهذا القرار الخطير يتخذه أشهر أعلام المعتزلة معلنا رجوعه التام عن جميع أقوال المعتزلة، ويتبع ذلك بكشف ضلالاتهم، والرد عليم بأسلوب كلامي قوي يوازي ما عند المعتزلة من قدرة وأساليب. والمفاجأة إذا وقعت بهذا المستوى ينسى الناس معها تفاصيل الأمور، من مثل أن الأشعري لم يكن رجوعه إلى مذهب السلف كاملا، وأن لديه بعض البقايا من أصول المعتزلة – وتنحصر القضية في رد العدو الأكبر "المعتزلة" ولا شك أن الرد عليهم وكشف ضلالاتهم في ذلك الوقت جهاد وأي جهاد، يقول ابن عساكر - فيما رواه عن ابن عذرة – في قصة رجوع الأشعري وصعوده المنبر وإعلان ذلك على الملأ: "ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب (اللمع) وكتاب أظهر فيها عوار المعتزلة سماه بكتاب (كشف الأسرار وهتك الأستار) وغيرهما، فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها، وانتحلوه، واعتقدوا تقدمه، واتخذوه إماما، حتى نسب مذهبهم إليه، قال لي أبو بكر – أي ابن عذرة – فصار عند المعتزلة ككتابي أسلم وأظهر عوار ما تركه فهو أعدى الخلق إلى أهل الذمة، وكذلك الأشعري أعدى الخلق على المعتزلة، فهم يشنعون عليه من الأشانيع وينسبون إليه الأباطيل" (٣).


(١) انظر: ((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) عرفان عبدالحميد (ص: ١٤٧ - ١٤٨).
(٢) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: ١٣١).
(٣) ((تبيين كذب المفتري)) (ص: ١٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>