٤ـ أما مسألة الاستواء، فقد سبق بيان أن الباقلاني ومن قبله قالوا بإثباته بلا تأويل، وردوا على من أوّله بالاستيلاء، وأن ابن فورك مال فيه إلى التأويل، أما البغدادي فقد قال بالتأويل، مع أنه رد على المعتزلة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء وقال:"زعمت المعتزلة أنه بمعنى استولى كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق، أي استولى، وهذا تأويل باطل؛ لأنه يوجب أنه لم يكن مستولياً عليه قبل استوائه عليه"، ثم عرض أقوال أصحابه الأشاعرة فقال:"واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا قول مالك بن أنس وفقهاء المدينة والأصمعي ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش فعل أحدثه في العرش ثم سماه استواء، كما أحدث في بنيان قوم سماه إتياناً، ولم يكن ذلك نزولاً ولا حركة، وهذا قول أبي الحسن الأشعري ... ومنهم من قال: إن استواءه على العرش كونه فوق العرش بلا مماسة، وهذا قول القلانسي وعبد الله بن سعيد، ذكره في كتاب (الصفات) "، وبعد عرضه لهذه الأقوال يرجح فيقول:"والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثّلّ عرشُ فلان إذا ذهب ملكه ... فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه"، ويقول في موضع آخر حول معنى آية الاستواء:" معناه عندنا على الملك استوى، أي استوى الملك للإله، والعرش هاهنا بمعنى الملك ... ".
أما مسألة العلو فهو من نفاته، ولذلك بوب لإحدى المسائل بقوله:"المسألة السابعة من الأصل الثالث في إحالة كون الإله في مكان دون مكان "، ثم ذكر أقوال الكرامية والمعتزلة والحلولية، ثم قال:"ودليلنا على أنه ليس في مكان بمعنى المماسة قيام الدلالة على أنه ليس بجوهر ولا جسم ولا ذي حد ونهاية، والمماسة لا تصح إلا من الأجسام والجواهر التي لها حدود"، ثم ذكر أنه أفرد هذه المسألة في كتاب مفرد، وفي موضع آخر يذكر أن الله كان ولا مكان وهو الآن على ما كان.
فالبغدادي من نفاة العلو ومؤولة الاستواء، وبهذا يتبين أن القول بذلك في المذهب الأشعري جاء قبل الجويني.
٥ـ وأبرز تطور جاء على يد البغدادي هو قوله في الصفات الخبرية، وقد سبق ذكر أن الباقلاني وابن فورك ومن قبلهما أثبتوا لله الوجه واليدين والعين ومنعوا من تأويلها، وابن فورك - مثلاً - وإن قال بتأويل بعض الصفات الخبرية، كالقدم والإصبع واليمين - كما مر - إلا أن هذه الصفات - صفات الوجه واليدين والعين- لم يؤولها ولم يسلك فيها ما سلكه في غيرها بل نص على القول بالإثبات والمنع من التأويل، أما البغدادي فإنه قال:"المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل في تأويل الوجه والعين من صفاته"، ثم ذكر قول المشبهة ثم قال:"وزعم بعض الصفاتية أن الوجه والعين المضافين إلى الله تعالى صفات له، والصحيح عندنا أن وجهه ذاته، وعينه رؤيته للأشياء، وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: ٢٧]، معناه ويبقى ربك، ولذلك قال: ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ، بالرفع لأنه نعت الوجه، ولو أراد الإضافة لقال ذي الجلال والإكرام، بالخفض ... "، ثم ذكر المسألة الرابعة عشرة في تأويل اليد المضافة إلى الله تعالى، وبعد أن أبطل مذهب المشبهة قال:"وزعم بعض القدرية أن اليد المضافة إليه بمعنى القدرة، وهذا التأويل لا يصح على مذهبه مع قوله: إن الله تعالى قادر بنفسه بلا قدرة، وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل، وذلك صحيح على المذهب، إذا أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء، ولذلك قال في آدم عليه السلام خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]، ووجه تخصيصه آدم بذلك أن خلقه بقدرته لا على مثال له سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام، كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام، وزعم بعض أصحابنا أن يديه صفتان، وزعم القلانسي أنهما صفة واحدة "، وكلامه هذا يدل على تأويل صريح لهذه الصفات، وقد بنى تأويله هذا على أن الله واحد فقال بعد ذكر بعض الصفات الخبرية ناسياً إثباتها إلى المشبهة:" ودليلنا على أن الله واحد في ذاته، ليس بذي أجزاء وأبعاض أنه قد صح أنه حي، قادر، عالم، مريد فلو كان ذا أجزاء وأبعاض لم يخل أن يكون في كل جزء منه حياة وقدرة وعلم وإرادة، أو تكون هذه الصفات في بعض أجزائه ... "، ثم قال:"وأما قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: ٢٧]، فمعناه ويبقى ربك ... (ثم ذكر التعليل السابق، ثم قال:) واليد المضافة إلى الله تعالى صفة له خاصة وقدرة له بها فعله"، كما أنه أوّل القدم والإصبع.
وبهذا يتبين أن البغدادي قال بتأويل الصفات الخبرية في وقت مبكر، وأن الجويني - المولود سنة ٤١٩ هـ والمتوفى سنة ٤٧٨هـ - الذي اشتهر عنه أنه أول من أوّل الصفات الخبرية قد سبق إلى ذلك من جانب بعض أع