العراق فإذا به فيلم عن المواكب الحسينية في شوارع النجف وكربلاء والكاظمية تصور مشاهد مروعة ومقززة عن ضرب القامات والسلاسل وكأن الإنجليز قد أرادوا أن يقولوا له: هل إن شعبا مثقفا له من المدنية حظ قليل يعمل بنفسه هكذا؟
وهنا أذكر كلاماً طريفاً مليئاً بالحكمة والأفكار النيٍّرة سمعته من أحد أعلام الشيعة ومشايخهم قبل ثلاثين عاماً لقد كان ذلك الشيخ الوقور الطاعن في السن واقفاً بجواري وكان اليوم هو العاشر من محرم والساعة اثنتي عشرة ظهراً والمكان هو روضة الإمام " الحسين " في كربلاء وإذا بموكب المطبرين الذين يضربون بالسيوف على رؤوسهم ويشجونها حداداً وحزناً على " الحسين " دخلوا الروضة في أعداد غفيرة والدماء تسيل على جباههم وجنوبهم بشكل مقزز تقشعر من رؤيته الأبدان ثم أعقب الموكب موكب آخر وفي أعداد غفيرة أيضاً وهم يضربون بالسلاسل على ظهورهم وقد أدموها وهنا سألني الشيخ العجوز والعالم الحرّ: ما بال هؤلاء الناس وقد أنزلوا بأنفسهم هذه المصائب والآلام؟ قلت: كأنك لا تسمع ما يقولون إنهم يقولون: (واحسيناه) أي لحزنهم على " الحسين " ثم سألني الشيخ من جديد: أليس الحسين الآن في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ قلت: نعم, ثم سألني مرةً أخرى: أليس الحسين الآن في هذه اللحظة في الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين؟ قلت: نعم, وهنا تنفس الشيخ الصعداء وقال بلهجة كلها حزن وألم: ويلهم من جهلة أغبياء, لماذا يفعلون بأنفسهم هذه الأفاعيل لأجل إمام هو الآن في جنة ونعيم ويطوف عليه ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من نعيم.
في عام (١٣٥٢) هـ وعندما أعلن كبير علماء الشيعة السيد " محسن الأمين " العاملي تحريم مثل هذه الأعمال وأبدى جرأةً منقطعة النظير في الإفصاح عن رأيه وطلب من الشيعة أن يكفوا عنها لاقى معارضة قوية من داخل صفوف العلماء ورجال الدين الذين ناهضوه ووراءهم " الهمج والرعاع " على حد تعبير الإمام " علي " وكادت خطواته الإصلاحية تفشل لولا أن تبنى جدنا السيد " أبو الحسن " وبصفته الزعيم الأعلى للطائفة الشيعية موقف العلامة الأمين ورأيه في تلك الأعمال معلناً تأييده المطلق له ولفتواه، ولقد أعطى موقف جدنا بعداً كبيراً للحركة الإصلاحية التي نادى بها السيد " الأمين " ومع أن كثيراً من الفقهاء والمجتهدين وقفوا موقفاً معارضاً للسيد " أبو الحسن " كما وقفوا " للأمين " من قبل إلا أن السيد " أبو الحسن " تغلب على الجميع في آخر المطاف بسبب مقامه الرفيع وصموده، وأخذت الجماهير تطيع فتوى الزعيم الأكبر وبدأت تلك الأعمال تقل رويداً رويداً وتختفي من على الساحة الشيعية إلا أنها لم تندثر تماماً حيث بقيت لها مظاهر ضعيفة وهزيلة حتى أن توفي جدنا رحمه الله في عام (١٣٦٥) هـ وأخذت بعض الزعامات الشيعية الجديدة تحث الناس على تلك الأعمال من جديد فبدأت تنمو مرةً أخرى في العالم الشيعي ولكنها لم تصل إلى ما كانت عليه قبل عام (١٣٥٢) هـ وبعد أن أعلنت في إيران الجمهورية الإسلامية وتولت ولاية الفقيه السلطة صدرت الأوامر بإحياء تلك الأعمال كجزء من السياسة المذهبية وأخذت الجمهورية الإسلامية الفتية تساعد الفئات الشيعية في كل الأرض وتحثهم مالياً ومعنوياً لإحياء هذه البدعة التي أدخلتها السياسة الاستعمارية الإنجليزية إلى العالم الإسلامي الشيعي قبل مائتي عام, وذلك لتظهر وجه الإسلام والمسلمين بالمظهر الكالح وتبرر استعمارها لبلاد الإسلام كما قلنا من قبل، وعندما أكتب هذه السطور تشاهد المدن الإيرانية والباكستانية والهندية واللبنانية مع الأسف الشديد في يوم العاشر من محرم من كل عام مواكباً تسير في شوارعها بالصورة التي رسمناها، وقبل أن تنتهي ساعات ذلك اليوم فإن صوراً من تلك الهمجية الإنسانية والجنون المفزع تعرض على شاشات التلفزة في شرق الأرض وغربها لتعطي قوة لأعداء الإسلام والمتربصين بالإسلام والمسلمين معاً.