للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السبب الثاني: من الأسباب الداعية إلى القول بأن توحيد الألوهية غير واضح في المنهج الأشعري، هو أن كتبهم المصنفة في العقائد – على كثرتها – لم تفرد هذا الموضوع بالبحث، وهذا إن عذر فيه المتقدمون فلا يعذر المتأخرون في تركه إذ الحاجة إلى البيان فيه والتحذير مما يضاده قائمة.

والحقيقة غير المرضية هي أن كثيراً ممن يقع في الشرك بل ومن يبرر للعوام فعلهم الشركي معدود في علماء الأشعرية – كما سيأتي بيانه إن شاء الله

السبب الثالث: ومما يؤكد عدم وضوح هذا المنهج: أنهم قد يردون على أهل الملل ردوداً قاصرة عن بيان الحقيقة وإبرازها وإبطال الباطل في بعض المسائل، فمن ذلك ردهم على الصابئة المشركين الذين يعبدون الروحانيات الطاهرة لتقربهم إلى الله – بزعمهم – إذ هم لا يمكنهم التقرب إلى الله لكثرة ذنوبهم وعيوبهم، وهم كذلك لا يقرون بوجود واسطة بين الخالق والخلق لتبليغ الرسالة وهم الرسل (١).فأقام الشهرستاني مناظرة بينهم وبين الحنفاء أتباع الرسل ليثبت أن اتخاذ الأنبياء واسطة أولى من اتخاذ تلك الروحانيات العلوية واسطة! (٢)

وهذه المحاولة خطأ كبير، إذ تبين مدى عدم معرفة ما بعث الله به رسوله من التوحيد والتحذير من الشرك وذلك: أن الحنفاء لم يتخذوا الرسل وسائط في الخلق والتدبير والرزق والإحياء والإماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي، فهم إنما يثبتون هذه الأمور لله ويعبدونه ولا يعبدون أحداًَ سواه، بخلاف الصابئة الذين يعبدون تلك الروحانيات العليا لتقربهم إلى الله، وفرق بين من يزعم أنه يتوصل إلى الحق دون حاجة للرسل ثم يعبد غير الله، وبين من يأخذ الحق عن طريق الرسل الذين هم واسطة بين الله تعالى وخلقه في تبليغ الرسالة، ثم يقوم لله بالعبادة ويفرده بها.

السبب الرابع:

ومن الأسباب الداعية إلى القول بأن المنهج الأشعري غير واضح في توحيد الألوهية هو زعمهم أن أول واجب على المكلف: المعرفة، أو النظر، أو القصد إلى النظر المؤدي إلى إثبات وجود الله تعالى، ومن ثم إثبات وحدانيته في الذات والأفعال. وهذا أطبق عليه المتقدمون والمتأخرون منهم، فلذلك اشتغلوا بتحقيق ما زعموه أول واجب على المكلف برد الشبهات والشكوك وتفنيدها وإيراد الاعتراضات ودفعها بطرق منطقية صعبة، لذلك لا يجد الباحث لهم تصنيفاً مستقلاً يوضح منهجهم في هذا التوحيد. وهذا لا يعني الطعن فيهم كلهم – وإنما هم على مراتب:

المرتبة الأولى: وهم المتقدمون، فإنه لا يمكن أن يقال عنهم إنهم خالفوا في توحيد الألوهية. والأدلة على هذا الأمر إجمالاً هي:

١ - لم ينقل عن الأئمة الأعلام من أهل السنة الرد على الأشاعرة في مسائل توحيد الألوهية، مما يدل على عدم وجود مخالفة منهم، إذ لو وجدت لما تأخر الأئمة في الرد عليهم.

٢ - وجود تعريفات لبعض علماء الأشاعرة للتوحيد تفيد دخول توحيد الألوهية فيه صراحة.

٣ - إيراد الأئمة لمقدمات يسلم بها المخالف خاصة في مسألة كلام الله أنه غير مخلوق، حيث وردت الاستعاذة بكلمات الله – ومعلوم أنه لا يستعاذ بمخلوق – فلا شك أن الأشاعرة يسلمون بهذه الطريقة كما هو ظاهر من صنيع البيهقي.

٤ - تنصيص بعض علماء الأشاعرة على أنواع من العبادات كالدعاء والرجاء والخوف والخشية، وبينوا أنها لا تكون إلا لله. وتنصيص بعضهم على صور اتخاذ المشركين للأصنام شفعاء، مما يدل على فهمهم للشرك في الألوهية.

٥ - إنكار بعض علماء الأشاعرة ما وقع فيه الناس في أزمنتهم من التعلق بالخلق والتبرك بالحيطان والأعمدة وتعظيم قبور الأكابر وبيانهم أن ذلك من الشرك.


(١) انظر ((مقالتهم في الملل والنحل للشهرستاني)) (٢/ ٦ - ٧).
(٢) انظر ((المناظرة في الملل والنحل)) (٢/ ١٤ - ٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>