للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كان هدف الصليبيين هو السيطرة على بيت المقدس فقد كان ردهم غامضًا واكتفوا ببث شعور الطمأنينة في نفوس الفاطميين واكتشفوا بذلك ضعف المسلمين وتفككهم. ولما قام الأمير "كربوق" صاحب الموصل – من قبل السلاجقة بتجهيز قوة لمنع سقوط أنطاكية بيد الصليبيين وقف الفاطميون موقف المتفرج، ولم يكتفوا بذلك بل استغلوا هذه الفرصة فسيروا جيشًا إلى بيت المقدس الذي كان بيد السلاجقة وحاصروه، ونصبوا عليه أكثر من أربعين منجنيقًا حتى تهدمت أسواره وسيطروا عليه (١).واستغل زعماء الشيعة الإسماعيلية الخلاف بين بعض السلاطين السلاجقة في نحو سنة ٤٨٨هـ، وتقربوا من رضوان بن تاج الدولة تتش الذي كان على بلاد الشام، وحصلوا عنده على مكانة مرموقة فتشيع لآرائهم، ولم يعبأ بما أحرزه الصليبيون من انتصارات واستيلاء على بعض بلاد الإسلام في آسيا الصغرى (٢) فقد استولوا على أنطاكية سنة ٤٩١هـ ثم سيطروا على المعرة عام ٤٩٢هـ ثم واصلوا سيرهم إلى جبل لبنان؛ فقتلوا من به من المسلمين، ثم نزلوا إلى حمص فهادنهم صاحبها على مال يدفعه.

قال ابن كثير رحمه الله: "في جمادى الأولى سنة ٤٩١هـ ملك الفرنجة أنطاكية بعد حصار شديد بمواطأة بعض المستحفظين على الأبراج وهرب صاحبها .. ولما بلغ الخبر الأمير كربوق صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهما، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض أنطاكية فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأخذوا منهم أموالاً جزيلة .. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان؛ فأخذوها بعد حصار ولا حول ولا قوة إلا بالله" (٣).

ضياع بيت المقدس بسبب خيانات الشيعة:"وفي سنة ٤٩٢هـ أخذت الفرنج بيت المقدس ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل؛ وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار؛ وعلوا ما علوا تتبيرًا، .. وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه .. وخرج أعيان الفقهاء يحرضون الناس والملوك على الجهاد فلم يفد ذلك شيئًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون" (٤).

وأنشد بعضهم يصور الموقف المهين:

مزجنا دمانا بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم

وشر سلاح المرء دمع يريقه ... إذا الحرب شيت نارها بالصوارم

فأيها بني الإسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذي بالمناصم

وكيف تنام العين ملء جفونه ... على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحى مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

ومنها قوله:

وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الوالدان شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها ‍ ... ليسلم يقرع بعدها هاش نادم

سللن بأيدي المشركين قواضبا ‍ ... ستغمد منهم في الكلي والجماجم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ‍ ... رماحهم والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفًا من الردى ‍ ... ولا يحسبون العار ضربة لازم

أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى ‍ ... ويغضى على ذل كماة الأعاجم

فليتهموا إذ لم يذودوا حمية ‍ ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى ... فهلا أتوه رغبة في المغانم (٥)


(١) د/ أنس أحمد كرزون:)) نور الدين محمود زنكي القائد المجاهد (((٩ - ١١) بتصرف – دار ابن حزم – بيروت ١٩٩٥م.
(٢) انظر: مسفر الغامدي: الجهاد ضد الصليبيين (ص٥١) نقلاً عن زبدة الحلب (٢/ ١٤٥).
(٣) البداية والنهاية (١٢/ ١٥٥).
(٤) البداية والنهاية ١٢/ ١٥٦.
(٥) الأبيات كلها: من ((البداية والنهاية)) (١٢/ ١٥٦،١٥٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>