للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب: إن هذا القياس هو قياس عباد الأصنام والأوثان وغيرها نفسه الذين زعموا أن ذنوبهم كثيرة وأنهم لا يصلون إلى مرادهم إلا بتوسط الأكابر والأعلى منزلة عند الله (١) قال تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: ٣].

وقياسهم هذا فاسد الاعتبار إذ هو قياس في مقابلة نصوص كثيرة حرمت هذا العمل وبينت أنه فعل المشركين كقوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: ١٨]، فدلت الآية على أن اتخاذ وسطاء في الدعاء والعبادة قدحٌ في علم الله تعالى وأنه شرك يتنزه الله عنه. وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ... [الرعد: ٣٣] فدلت الآية على أن هذا العمل فيه قدح في الربوبية إذ فيه إثبات لقيام غير الله بشئون الخلق، وفيها بيان أنه قدح في علم الله.

وقد حسم الله تعالى مادة هذا الشرك بقوله: قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: ٥٦ - ٥٧]. وقال قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: ٢٢ - ٢٣].

ولاشك أن واسطة المرسل بين الله وخلقه هي في تبليغ الرسالة من الله لخلقه ليقوموا لله رب العالمين بالعبادة ويتركوا عبادة غيره، لا أن يعبد الرسل أنفسهم، قال الله تعالى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: ٧٩].وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كل ما يؤدي إلى تشريكه بالله كقوله لمن قال له: ((ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده)) (٢)، وكذلك كان ينهى عن اتخاذ قبره عيداً أو وثناً يعبد. فكل ذلك وغيره يدل على الفرق بين الواسطة في الرسالة والواسطة في العبادة (٣).

هذا وقد أعرضت عن أدلة أخرى يحتج بها من غرق في التصوف كالاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والمنامات والإلهامات – إذ يكفي أن يقال عنها كلها: إنها مردودة – فأما الأحاديث الموضوعة فمردودة مطلقاً، وأما المنامات والإلهامات فإنه لا يثبت بها شرع مطلقاً، ولا تقبل إلا إذا جاءت موافقة للشرع، والأمر فيها كما قال في مراقي السعود:

وينبذ الإلهام بالعراء ... أعني به إلهام الأولياء (٤)

قال شارحه عن الإلهام: "وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوماً بخواطره لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان فيها" (٥) اهـ. وقال: "وكذا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يأمره وينهاه لا يجوز اعتماده ... لعدم ضبط الرائي" (٦) اهـ.

المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – ١/ ٢٠٢


(١) انظر ذلك في ((أصل الشرك في بني آدم)) (ص: ٩٥).
(٢) رواه أحمد (١/ ٢٨٣) (٢٥٦١) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٦/ ٢٤٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنه, بلفظ: (عدلاً) بدلاً من (نداً) والبخاري في ((الأدب المفرد)) (١/ ٢٩٠) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (٣/ ٢٠٠): إسناده حسن, وقال أحمد شاكر في تحقيقه لـ ((مسند أحمد) (٥/ ٨٥): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)).
(٣) وانظر ((الواسطة بين الحق والخلق)) لشيخ الإسلام ((ضمن مجموعة التوحيد)) (١/ ١١٦ - ١٢١) و ((القول الفصل النفيس)) للشيخ عبدالرحمن بن حسن (ص: ٩١ - ١٨٤) و ((صيانة الإنسان)) (ص: ١٧٧ - ١٧٩) و ((الصواعق المرسلة الشهابية)) لابن سحمان (ص: ١٢٤ - ١٥٤).
(٤) ((مراقي السعود – مع شرحها نشر البنود – في أصول الفقه)) (٢/ ٢٦١).
(٥) ((نشر البنود شرح مراقي السعود)) (٢/ ٢٦٢).
(٦) ((نشر البنود شرح مراقي السعود)) (٢/ ٢٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>