ومعنى كلام هؤلاء السلف رضي الله عنهم: إن من قال أن كلام الله مخلوق خلقه في الشجرة أو غيرها كما قال هذا الجهمي المعتزلي المسؤول عنه، كان حقيقة قوله أن الشجرة هي التي قالت لموسى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: ١٤] ومن قال هذا مخلوق قال ذلك، فهذا المخلوق عنده كفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، كلاهما مخلوق، وكلاهما قال ذلك، فإن كان قول فرعون كفراً فقول هؤلاء أيضاً كفر. ولا ريب أن قول هؤلاء يؤول إلى قول فرعون وإن كانوا لا يفهمون ذلك، فإن فرعون كذب موسى فيما أخبر به: من أن ربه هو الأعلى، وأنه كلمه كما قال تعالى وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً [غافر:٣٦ - ٣٧] وهو قد كذب موسى في أن الله كلمه، ولكن هؤلاء يقولون إذا خلق كلاماً في غيره صار هو المتكلم به وذلك باطل وضلال من وجوه كثيرة: أحدها أن الله سبحانه أنطق الأشياء كلها نطقاً معتاداً ونطقاً خارجاً عن المعتاد، قال تعالى اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [يس:٦٥] وقال تعالى: حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [فصلت:٢٠ - ٢١].
وقال تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [النور:٢٤].
وقد قال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق [ص:١٨] وقد ثبت أن الحصى كان يسبح في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأن الحجر كان يسلم عليه، وأمثال ذلك من إنطاق الجمادات، فلو كان إذا خلق كلاماً في غيره كان هو المتكلم به كان هذا كله كلام الله تعالى، ويكون قد كلم من سمع هذا الكلام كما كلم موسى بن عمران، بل قد ثبت أن الله خالق أفعال العباد، فكل ناطق فالله خالق نطقه وكلامه فلو كان متكلماً بما خلقه من الكلام لكان كل كلام في الوجود كلامه حتى كلام إبليس والكفار وغيرهم، وهذا تقوله غلاة الجهمية كابن عربي وأمثاله يقولون:
وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه
وهكذا أشباه هؤلاء من غلاة المشبهة الذين يقولون: إن كلام الآدميين غير مخلوق، فإن كل واحد من الطائفتين يجعلون كلام المخلوق بمنزلة كلام الخالق فأولئك يجعلون الجميع مخلوقاً وأن الجميع كلام الله، وهؤلاء يجعلون الجميع كلام الله وهو غير مخلوق، ولهذا كان قد حصل اتصال بين شيخ الجهمية الحلولية وشيخ المشبهة الحلولية بسبب هذه البدع وأمثالها من المنكرات المخالفة لدين الإسلام سلط الله أعداء الدين فإن الله يقول: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:٤٠ - ٤١] وأي معروف أعظم من الإيمان بالله وأسمائه وآياته؟ وأي منكر أعظم من الإلحاد في أسماء الله وآياته؟