وبمثل ذلك نقل متى في إنجيله:(لما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر، فتقدم كاتب وقال له: يا معلم، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه. وقال له آخر من تلاميذه: يا سيد، ائذن لي أمضي أولا وأدفن أبي. فقال له يسوع: اتبعني، ودع الموتى يدفنون موتاهم)(١).
هذا ومثل هذا كثير في الأناجيل وأعمال الرسل وغيرها من الكتب المسيحية، وعلى هذه التعاليم أسسوا نظام الرهبنة، أي التجرد عن علائق الدنيا ومتطلباتها وحاجاتها.
وزادوا عليها تعذيب النفس، وتحمل المشاق والآلام، تعمقا في التجرد، ومغالاة في تجنب الدنيا، واحتقارا لزخارفها، كما أن هنالك أسبابا أخرى لاختيار الرهبنة، فقد ذكر علماء المسيحية الكثيرون وكتابها وباحثوها.
وجمع هذه الأقاويل والمقولات ول ديورانت في موسوعته الكبرى (قصة الحضارة)، فيقول: (لما أن أصبحت الكنيسة منظمة تحكم الملايين من بني الإنسان، ولم تعد كما كانت جماعة من المتعبدين الخاشعين، أخذت تنظر إلى الإنسان وما فيه من ضعف نظرة أكثر عطفا من نظرتها السابقة، ولا ترى ضيراً من أن يستمتع الناس بملاذ الحياة الدنيا، وأن تشاركهم أحيانا في هذا الاستمتاع، غير أن أقلية من المسيحيين كانت ترى في النزول إلى هذا الدرك خيانة للمسيح، واعتزمت أن تجد مكانها في السماء عن طرق الفقر، والعفة، والصلاة، فاعتزلت العالم اعتزالا تاماً. ولربما كان مبشرو أشوكا Ashoka ( حوالي ٢٥٠ ق م) قد جاءوا إليه بنظرية البوذية وقوانينها الأخلاقية، ولربما كان النساك الذين وجدوا في العالم قبل المسيحية أمثال سرابيس Se apis في مصر أو جماعات الإسنيين في بلاد اليهود قد نقلوا إلى أنطونيوس وباخوم المثل العليا للحياة الدينية الصارمة وأساليب هذه الحياة. وكان الكثيرون من الناس يرون في الرهبنة ملاذاً من الفوضى والحرب اللذين أعقبا غارات المتبربرين، فلم يكن في الدير ولا في الصومعة الصحراوية ضرائب، أو خدمة عسكرية، أو منازعات حربية، أو كدح ممل. ولم يكن يطلب إلى الراهب ما يطلب إلى القسيس من مراسم قبل رسامته، وكان يوقن أنه سوف يحظى بالسعادة الأبدية بعد سنين قليلة من حياة السلام.
ويكاد مناخ مصر أن يغري الناس بحياة الأديرة، ولهذا غصت بالبرهان النساك الفرادى والمتجمعين في الأديرة يعيشون في عزلة كما كان يعيش أنطونيوس، أو جماعات كما كان يعيش باخوم في تابن Tabenne وأنشئت الأديرة للرجال والنساء على طول ضفتي النيل، وكان بعضها يحتوي نحو ثلاثمئة من الرهبان والراهبات. وكان أنطونيوس (٢٥١ – ٣٥٦) أشهر النساك الفرادى، وقد أخذ ينتقل من عزلته حتى استقر به المقام على جبل القلزم القريب من شاطئ البحر الأحمر. وعرف مكانه المعجبون به فحذوا حذوه في تعبده ونسكه، وبنوا صوامعهم في أقرب مكان منه سمح لهم به، حتى امتلأت الصحراء قبل موته بأبنائه الروحيين. وقلما كان يغتسل، وطالت حياته حتى بلغ مائة وخمساً من السنين، ورفض دعوة وجهها إليه قسطنطين ولكنه سافر إلى الإسكندرية في سن التسعين ليؤيد أثناسيوس ضد أتباع أريوس، وكان يليه في شهرته باخوم الذي أنشأ في عام ٣٢٥ تسعة أديرة للرجال وديراً واحداً للنساء. وكان سبعة آلاف من أتباعه الرهبان يجتمعون أحيانا ليحتفلوا بيوم من الأيام المقدسة، وكان أولئك الرهبان المجتمعون يعملون ويصلون، ويركبون القوارب في النيل من حين إلى حين ليذهبوا إلى الإسكندرية حيث يبيعون ما لديهم من البضائع ويشترون حاجياتهم ويشتركون في المعارك الكنسية – السياسية.
(١) ((إنجيل متّى)) الإصحاح الثامن الآية ١٨ إلى ٢٣.