إننا نلاحظ أن الأستاذ نسلكسون يرى أن الأثر كان في القرن السادس الهجري، ويختلف معه ماسينيون، فيرى على وجه أصح أنه كان في القرن الرابع، والواقع أنه في القرن الثالث، بدليل أن الربوبية ظهرت عربية في الوسط الإسلامي في القرن الثالث الهجري وكان لها أثرها المباشر في نظريات الاتصال الفارابية، ونظريات البسطامي والحلاج. فإذا اعتمدنا على جهد اصطفان بن صُدَّيللي الغنوصي السرياني الذي كان أستاذاً في مجمع (أريو باجوس) الذي تخرج منه ديونيسيوس Dionysius الأريوباجي، والذي كان معاصرا ليعقوب السروجي الأديب السرياني المشهور (ت ٥٢١ م) أقول - إذا عدنا إلى اصطفان بن صُدَّيللي، وجهوده في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي وفي (الرُّها) بالذات فإننا نجد من جهوده الخطيرة أنه نقل بعد رحلاته في مصر وغيرها مذاهب وحدة الوجود وعاد ونشرها في (الرُّها) وكما اشتغل بشرح الإنجيل، وأنكر أبدية عذاب جهنم، وأكد أن المذنبين سيعودون إلى الجنة بعد تطهير. وكان لهذا أثره في سخط أهل الرّها فطردوه ورموه بالإلحاد، فرحل إلى دير في بيت المقدس، ووجد لآرائه هناك أرضا خصبة، وجمع آراءه، ونسبها إلى ديونيسيوس لشهرته. من هنا لا نجد غرابة مطلقاً في الدوائر الصوفية في الإسلام انتشار مثل هذه الأقوال التي شاعت مع جهم بن صفوان، ثم اندفعت في أفق الفكر الإسلامي، حيث شكلت مذاهب الفيض والإشراق والمعرفة والجذب والحلول والاتحاد ووحدة الشهود ووحدة الوجود، وكل مركبات (الثيوصوفية) بتأثير الأمشاج المختلطة مع الغنوص الشرقي القديم. فإذا نظرنا في مذاهب الفيض الأفلوطيني - نجد أن الله والعقل الأول والنفس الكلية والمادة غير المصورة والنفوس الجزئية - كل أولئك عبارة عن مراتب الوجود الأفلوطينية، وهذا ما نجده في مدرسة ابن عربي في الحقيقة المحمدية أول فيض من الذات الإلهية، ثم بقية الفيوضات في جميع الموجودات، وعند ابن الفارض في وحدة الشهودية وفي مذهبه القطبية والحقيقة المحمدية، وعند الإشراقية السهروردية والشيرازية التي تجعل الله نور الأنوار فياضاً بالأنوار القاهرة وهي النفوس والعقول، وبالجواهر الغاسقة الناشئة عن الأنوار، وهي الأجسام، حتى المصطلحات في المثل أو المعاني الأزلية، والحقيقة، وحقيقة الحقائق، والعلة والمعلول، والوحدة والكثرة، وتحقق الذات في الموضوع وشيوع الموضوع في الذات. كل هذا يعود إلى أصوله الأفلوطينية التي تعود هي الأخرى إلى الغنوص الشرقي والغربي المؤول في الفلسفات اليهودية والمسيحية اللاهوتية. لقد أخذت النظريات الصوفية لدى الصوفية الفلاسفة أو الفلاسفة الخلص لدى المشائية الإسلامية وجوهرها من الأفلوطينية، وخاصة في المعرفة الإشراقية، التي تُلقى إلقاء في النفس عند تَطَهُّرها وتحررها، ويكفينا دليلا التاسوع الخامس لأفلوطين الذي يقول:(النفس التي لا تضاء بضوئه تظل بغير رؤية)، فإذا أضيئت فإنها تحتوي على كل ما تنشده فترى الأسمى بالأسمى - ترى الأسمى الذي هو في الوقت نفسه وسيلة الرؤية لأن ما يضيء النفس هو نفسه الذي تريد رؤيته، كما أننا نرى الشمس بضوء الشمس. لقد مارس أفلوطين (ت ٢٠٥ م) هذه التجربة، وأعطى الاتجاه للفارابي وابن سينا، والحلاج والسهروردي، وابن عربي وابن الفارض، وابن سبعين وبقية الركب المشائي أو الصوفي. يقول أفلوطين (وقد حدث مرات عدة أن ارتفعت خارج جسدي بحيث دخلتُ في نفسي، كنت حينئذ أحيا، وأظفر باتحاد مع الإلهي). (يجب على أن أدخل في نفسي، ومن هنا أستيقظ. وبهذه اليقظة أتحد بالله).