للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأول المنازل في الطرق الصوفية يسمى فيها الداخل مريداً، أي يريد السير في الطريقة، وتسمى منزلة الإرادة يقبلة الشيخ ويأخذ عليه العهود بالتوبة من الذنوب وصدق النية وترداد الأوراد المقررة عليه من الشيخ، وألا يعتقد أي معتقد لم يقره الشيخ، ولا يحق له الاعتراض على الشيخ حتى إن رآه مخطئاً. ويسمى بعد توجهه وإرادته المذهب الصوفي سالكاً، وبعد استمراره وسلوكه ومواظبته على الأوراد التي يلقنه الشيخ، فإذا أتقنها انتقل إلى مرتبة أخرى تسمى مرتبة العبودية (١)، وعليه أن يكثر من الضراعة والإلحاح إلى الله بترداد ما يمليه عليه المشايخ من أذكار وأوراد. ثم ينتقل المريد إلى مقام آخر حيث تقبل عليه العناية الإلهية وينتقل قلبه إلى مقام العشق لله، وعلى المريد هنا أن يكثر من الرياضة التي توصله إلى ربه فيما يزعمون، فيكثر من الأوراد والعزلة بنفسه والندم الشديد حتى تتملكه – بزعمهم – حال علوية شريفة ينتقل بها إلى مقام يسمى (الوجد (٢) والهيام) وهو أسمى من مقام العشق، وعند هذا المقام المزعوم تتوارد على قلب السالك النفحات الربانية، ويعتقدون أنه في هذه الحال تزداد معرفة السالك الباطنة الصفات الذات العلية. وهنا يصل السالك فيما يزعمون إلى الحقيقة وتسمى هذه المرحلة - مقام الحقيقة – التي يعرفها المنوفي بأنها "مشاهدة الربوبية" (٣)، وهي في الحقيقة الوصول إلى أعماق الوثنية والحلول، فإذا وصل بزعمهم إلى مقام الحقيقة يمكنه أن يظل يرتقي إلى أن يحقق منازل ثلاثاً هي: "الفناء"، و "اللقاء"، و "البقاء"، والفناء يقصدون به أن يفنى العبد عن كل شيء في الله تعالى، ويصير كما قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله.

فالوجود عنده كله يمثل الله – تعالى عن قولهم، وخصوصاً النساء فإنه يتمثل فيهم بصورة أكمل، ومن هنا بدى على أدبهم العشق والغرام والهياج الجنسي إلا أنهم زعموا أن هذا الغزل وهذا الهياج الملتهب إنما هو في الله، وسموه الحب الإلهي يجتمع الرجال والنساء ويرددون إما أبياتاً شعرية أو غيرها في رقص وتمايل، كما يحصل في الرقصات والسهرات مما يتنافى مع أبسط المثل الإسلامية والخشوع المطلوب في العبادات. وأما اللقاء والبقاء (٤) فإن الصوفية يقصدون بذلك أن العبد من خلال تلك المنازل تتجلى عظمة الخالق سبحانه على قلب السالك فلا يرى أمامه إلا الله، ولا يجد في الوجود جميعاً إلا واجب الوجود سبحانه، وتمحى أثار الموجودات من أمام عينيه إلا وجود الله سبحانه وتعالى، قال المنوفي:"سئل أبو يعقوب النهرجوري عن صحة الفناء والبقاء فقال: الفناء هو رؤية قيام العبد بالله عز وجل، والبقاء رؤية قيام الله تعالى منفرداً بذاته" (٥).

وهذه الدرجات هي ما عبر عنه الحلاج بقوله: "ما في الجبة إلا الله".وللسهرودي والمنوفي تفاصيل كثيرة حول المقامات ومراتبها العديدة في كتاب السهرودي (عوارف المعارف) وكتاب المنوفي (جمهرة الأولياء) (٦)، والواقع أن غلاتهم وقعوا في هوس وتخبط، وتلاعب الشيطان بهم لبعدهم عن منهج الله وشرعه، فجاءوا بأفكار وأقوال وحكم تنضح وثنية وجهلاً وأشعار غزلية، وقد قال الشافعي: "ما تصوف رجل في أول النهار وأتى عليه الضحى إلا وهو أحمق".


(١) عرفها المنوفي بقوله: "العبادة غاية التذلل للعامة، والعبودية صدق القصد للخاصة" ((جمهرة الأولياء)) (١/ ٣٠٦).
(٢) يقول النوفي: "الوجود: وجدان الحق بذاته ولهذا تسمى حضرة الجمع حضرة الوجود" ((جمهرة الأولياء)) (١/ ٣١٢).
(٣) ((جمهرة الأولياء)) (١/ ٣٠٢).
(٤) عرفه المنوفي بأنه "قيام الأوصاف المحمودة بالله" ((جمهرة الأولياء)) (١/ ٣٠١).
(٥) ((جمهرة الأولياء)) (ص٢٦٤).
(٦) انظر: ((جمهرة الأولياء)) (١/ ١٩٠) في عنوان "المقامات والأحوال".

<<  <  ج: ص:  >  >>