للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ذكر بعد ذلك أنه ليس المراد من هذا الاتحاد ما هو معروف في البوذية والمسيحية، وإنما هو بمعنى أنه مجرد ملاحظة روحية، ولكن يبقى عليه أن الملاحظة الروحية لا يقال فيها بالاتحاد، وإنما هي زيادة تعلق القلب بخالقها فقط، ومن قال إن ملاحظاته جعلته متحداً مع الله فلا شك في خروجه عن الحق مهما حاول بعد ذلك تغطية معتقده بزخرف القول. لقد أصبحت وحدة الشهود عند المتصوفة هي أخص مظهر من مظاهر الحياة الصوفية وهي الحال التي يسمونها بالفناء وعين التوحيد وحال الجمع، وهي الاتصال بين العبد وبين ربه عن طريق الشهود الصريح فيما يزعمون. ويصل الإنسان إليها – بزعمهم – بكثرة الذكر حتى يقع الشهود القلبي ثم يستغني عن الذكر بمشاهدة المذكور – حسب تخيلاتهم السقيمة الإلحادية – فاتضح مما سبق أن الفوارق لا تكاد تعرف بين تلك التسميات، فهي داخلة في النهاية كلها في دائرة واحدة هي القول بالحلول مهما تعددت صوره (١).

وأما اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضرب من الخيال والإلحاد، فهم يزعمون: ١ - أن الله كان في عماء دون تعيين فأراد أن يتعين في صورة فتعين في صورة محمد صلى الله عليه وسلم، أي أنهم يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله سبحانه وتعالى ذاتاً وصفةً حيث تعينت فيه الذات الإلهية في صورة مادة كما قرر الكشخانلي ومحمد الدمرداش – والجيلي والبيطار والقاشاني والفوتي وعلي حرازم والشعراني (٢).٢ - وأن الذي هاجر من مكة إلى المدينة هو الذات الإلهية متجلية في صورة هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر ابن عربي ذلك في قوله: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعيينات المفاضة من العماء الرباني وأخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شيء ثان إلى المدينة الجمع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية" (٣).

٣ - أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث يشاء في أقطار الأرض إلى اليوم لم يتبدل بعد وفاته.٤ - كل هذه الموجودات إنما وجدت من نور محمد صلى الله عليه وسلم ثم تفرقت في الكون (٤)، وهكذا فقد أصبح من الأمور المسلمة عند الصوفية أن هذا الكون وكل ما يحصل فيه من خير وفيض، إنما يتم عن طريق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وفيما قدمنا من النقل عن جواهر المعاني ورماح الفوتي ما يغني عن إعادته هنا، وهذا المعتقد مقرر في كتب الصوفية كلهم من التجانية أو من غيرهم؛ ولهذا يقول المنوفي في بيان تلك القضية:

لله در القائل:

من رحمة تصعد أو تنزل ... ما أرسل الرحمن أو يرسل

من كل ما يختص أو يشمل ... في ملكوت الله وملكه

نبيه المختار المرسل ... إلا وطه المصطفى عبده

بعلم هذا كل من يعقل (٥) ... واسطة فيها واصل لها

أي أن كل من يعقل ـ ولو قال كل من يجهل لكان أصوب- يعرف تمام المعرفة أن هذا الكون وما فيه إنما هو مستمد لبقائه ووجوده من محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو الرب تعالى في تعيينه الثاني. ويقرر ابن عطاء الله السكندري ذلك بقوله:"جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" (٦)

ومما لا يجهله أي مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبد بشر مثل سائر البشر كرمه الله تفضلاً ومنة بالرسالة مثل سائر الأنبياء والرسل.

وهو عليه الصلاة والسلام غني عن مبالغات الصوفية وأكاذيبهم الحمقاء، فكل ما قرره أقطاب الصوفية من أولهم إلى آخرهم حول الحقيقة المحمدية ونشوء الخلق عنها فإنه كلام خارج عن عقيدة المسلمين من دان فلا حظ له في الإسلام بل هو مجوسي وثني. يعتقدون كما قرره ابن عربي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف القرآن قبل نزوله بل إنه على حسب زعمهم هو الذي يعلم جبريل الذي بدوره يوحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثانية (٧).ومن الصوفية مثل أبي يزيد البسطامي من يزعم أن الرسل كانوا أقل من مرتبتهم حيث قال:"خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله" (٨) وهذه الافتراءات كلها إلحاد وزندقة وشبهات مظلمة وإبطالها مما لا يشق على مسلم عرف شيئا عن تعاليم الإسلام، فإن القرآن منزل من عند الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل عليه السلام وهذه هي عقيدة كل مسلم، من لم يؤمن بها أو شك فيها فلا حظ له من الإسلام ولا صلة بينه وبين المسلمين.

المصدر:فرق معاصرة لغالب عواجي ٣/ ١٠٠٥


(١) انظر: ما كتبه د. صابر طعيمة في كتابه ((الصوفية معتقداً ومسلكاً)) (ص ٢٥٧).
(٢) انظر: النصوص عن هؤلاء في كتاب ((هذه هي الصوفية)) من (ص ٧٣ – ٩٢).
(٣) ((فتح الباري)) (١١/ ٣٤٤).
(٤) هنا مربط الفرس في العقيدة الصوفية فقلما يخلو كتاب من كتبهم عن تقرير هذه العقيدة.
(٥) ((جمهرة الأولياء)) (٢/ ١٠).
(٦) ((لطائف المنن)) (ص ٥٥)
(٧) ((هذه هي الصوفية)) (ص ٨٩)، ينقله عن كتاب ((الكبريت الأحمر)) للشعراني (ص ٦).
(٨) انظر: ((شطحات الصوفية)) (ص٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>