للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انتقد ابن الجوزي هذا التقسيم فقال: " هذا قبيح لأن الشريعة ما وضعه الحق لصالح الخلق، فما الحقيقة بعدها سوى ما وقع في النفوس من إلقاء الشياطين، وبغضهم الفقهاء أكبر الزندقة " (١).

كما أن هذه التفرقة بين الظاهر والباطن أدت بهم في موضع التفسير إلى تأويل الآيات وتحريفها تخريفاً شنيعاً، وهذا التأويل المذموم حاولت كل الفرق الضالة الباطنية أن تجد له نصيراً من كتاب الله يتناسب وأهواءها. ولذلك ضبط علم التفسير عند أهل السنة بـ (أصول التفسير) حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى لا نهاية لها، ففي تفسير آية " فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي " قال صاحب (منازل السائرين): " رأى هذه حالة العطش كأن إبراهيم عليه السلام لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكواكب قال: هذا ربي، فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء".

ويعقب ابن القيم: " هذا ليس معنى الآية مطلقاً وإنما القوم مولعون بالإشارات " (٢)، وآية " فاخلع نعليك " فسرها الشيخ عبد المغني النابلسي - وهو من المتأخرين - " أي صورتك الظاهرة والباطنة يعني جسمك وروحك فلا تنظر إليها لأنها نعلاك " (٣)، وفسر بعضهم هذه الآية: يعني اخلع دنياك وآخرتك إلى آخر هذا الهراء ويبدو أن البعض منهم كان يشعر بخطأ هذه التفرقة، فيحذر وينصح، قال سهل ابن عبدالله: " احفظوا السواد على البياض (يعني العلم) فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق " (٤). ولكن القوم استمروا في إشاراتهم البعيدة عن العلم فقالوا عن آية " وإن يأتوكم أسارى " أي غرقى في الذنوب، " والجار ذي القربى " أي القلب " والجار الجنب " أي النفس حتى أنه يروى عن سهل بن عبد الله نفسه أنه فسر " ولا تقربا هذه الشجرة " بقوله: (لم يرد معنى الأكل في الحقيقة وإنما أراد أن لا تهتم بشيء غيري) قال الشاطبي: وهذا الذي ادعاه في الآية خلاف ما ذكره الناس (٥).

وقد جمع لهم أبو عبد الرحمن السلمي تفسيراً للقرآن الكريم من كلامهم الذي أكثره هذيان نحو مجلدين، وليته لم يصنفه فإنه تحريف (٦) وشيخهم السراج يهاجم الفقهاء لأن علمهم أقرب إلى حظوظ النفس، وأن علومهم قد يحتاج إليها في العمر مرة وعلوم الصوفية يحتاج إليها دائماً (٧) بينما نجد أن الصحابة لم يتعمقوا في كلامهم ولم يخوضوا في الأمور المتكلفة ولا بد في فهم الشريعة من إتباع مفهوم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، وتفسير القرآن بالمعاني التي تخطر على قلوب المتصوفة غير صحيح ومثل هذا التفسير لم ينقل عن السلف بل هو أشبه بمذهب الباطنية، وبسبب طموح النفوس إلى التكلف والأشياء المستغربة نشأ التفرق والفرق (٨).

ولقد صدق الشاعر محمد إقبال حين صوّر الشيخ الصوفي بهذه الأبيات:

" متاع الشيخ ليس إلا أساطير قديمة

كلامه كله ظن وتخمين

حتى الآن إسلامه زناري

وحين صار الحرم ديراً أصبح هو من براهمته " (٩)

المصدر:الصوفية نشأتها وتطورها لمحمد العبدة، وطارق عبد الحليم


(١) ((تلبيس إبليس)) (٣٣٧).
(٢) ((مدارج السالكين)) (٣/ ٦١).
(٣) بدوي: ((شطحات الصوفية)) (١٩٥).
(٤) ((تلبيس إبليس)) (٣٢٥).
(٥) القاسمي: ((محاسن التأويل)) (١/ ٧٣).
(٦) محمد حسين الذهبي: ((التفسير والمفسرون)) (٢/ ٣٨٦) نقلاً عن الإمام الذهبي.
(٧) ((اللمع)) (ص٣٦).
(٨) انظر تعليق الشيخ الخضر حسين على كتاب ((الموافقات)) للشاطبي (٢/ ٥٢)
(٩) ((ديوان أرمغان حجاز)) (ص ١٣٠) تحقيق د. سمير عبد الحميد. ويعني (إسلام زناري) تأثرهم بالنصارى الرهبان الذين يلبسون الزنار على وسطهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>