فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جداً قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، فيقولون سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلم كما جاء في الحديث الشريف، وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فنوح لم يعلم أن ابنه ليس من أهله وأن زوجته على غير دينه، وإبراهيم لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلاً وقربه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة علماً أنهم قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف من القوم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد حدث له مئات بل آلاف الوقائع التي تدل يقيناً أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه .. فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار شيطان وقال لخديجة لقد خفت على نفسي، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله .. ولم يدر بخلد النبي أنه سيؤذى ويخرج من مكة أبداً علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة، وعند الصوفية أن من لف رأسه بخرقة وجلس في مكان مظلم رأى الله، وعرف كل شيء وشاهد الكون أعلاه وأسفله .. بل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يعلم أين سيهاجر بعد ذلك، وبعد الهجرة خرج إلى أبي سفيان ففاته واصطدم بجيش المشركين وجاءه المشركون في المدينة المرة تلو المرة يزعمون أنهم قد آمنوا ويطلبون منه أن يرسل لهم من يعلمهم القرآن فكان يرسل معهم خيرة القراء، فيغدرون بهم في الطريق .. فغدر المشركون بأربعين رجلاً من المسلمين مرة واحدة، وسبعة مرة، ولو علم رسول الله ما يكون من أمر الله بل لو علم أن هؤلاء الكفرة الأعراب يكذبون عليه لما أسلم لهم أصحابه وحبس المشركون يوماً وليلة في مكان ليس فيه ماء لأن السيدة عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقداً لها ولو كان هناك كشف صوفي على ما يصوره الصوفية ويزعمونه لعلموا أين عقد السيدة عائشة الذي كان تحت بعيرها ولم يفطن إليه أحد من المسلمين من أصحاب النبي .. ورمى المنافقون السيدة عائشة بالزنا -شرفها الله وحماها وبرأها ولعن الله من سبها- .. ومكث رسول الله شهراً كاملاً لا يدري ما يقول، وكان يستفتي أصحابه ويسأل علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، وبريرة خادمته ومولاته هل رأوا على عائشة شيءاً .. ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله براءتها من السماء .. هذا إلى العشرات والمئات من الوقائع التي تبين أن رسول الله وأكرم خلق الله من البشر على الله لم يكن يطلع على شيء من الغيب إلا ما أطلعه الله بحكم النبوة ..
المصدر:الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص ١٤٣ - ١٤٥