للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذه هي الغاية التي يسعى هؤلاء الزنادقة سعياً حثيثاً إليها. إنها التسوية بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، وإبليس وجبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبو جهل، والخمر والماء، والأخت والأجنبية، والزواج والزنا واللواط، والقتل ظلماً والرحمة، والتوحيد والشرك، فلا ضلال في الأرض إلا في نظر القاصرين فقط، وأما العارفون فكل هذه الموجودات شيء واحد بل ذات واحدة تعددت وجوداتها، وتعددت أشكالها وألوانها وهي حقيقة واحدة -وبهذا الدين الذي لم تعرف البشرية أظلم ولا أفجر ولا أكفر منه- اعتقد هؤلاء الزنادقة وألبسوا هذا الدين الفاجر آيات القرآن وأحاديث النبي الكريم، ووصفوا أنفسهم بأنهم خير الناس وأعلمهم وأتقاهم، وهذه هي حالهم في الظلم والكفر والفجور، وهدم دين الإسلام وإحلال شرائع الشيطان مكان شريعة الرحمن، وطمس صفات الله ونوره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأستغفر الله من نقل هذا الكفر وتسطيره. فإنه كفر لم تقله اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا الصابئة .. ورحم الله الإمام عبدالله بن المبارك الذي كان يقول: إنا لنحكي كفر اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي كفر الجهمية .. فكيف لو رأى كفر هؤلاء الصوفية الملاحدة ماذا كان يقول في ذلك؟!

حقاً إن هذا لشيء عظيم ولكننا مضطرون أن نذكر كفرهم لندحضه ولنبينه للناس ليحذروا بعد أن عم شرهم البلاد والعباد، وبعد أن اغتر بهم جمع غفير من المسلمين، فظنوا أن الحق مع هؤلاء فاتبعوهم حتى صرفوهم عن دين الرسول صلى الله عليه وسلم وأوصلوهم إلى هذه النهاية المزرية التي يستحيل على الإنسان إذا وصلها أن يميز بين خير وشر، وهدى وضلالة، لأن كل هذه الأضداد ستكون عنده شيئا واحداً.

ومع ذلك فإن الجيلي يستطرد في هذا الباب شارحاً مراده تماماً فيقول:

"ولم يفتقر في ذلك إلى علمهم، ولا يحتاج إلى نياتهم، لأن الحقائق ولو طال إخفاؤها لا أن تظهر" أ. هـ. يعني أن الله لا يحتاج أن يعلم الكافر به ما دام أن وجود هذا الكافر هو وجود الله، وأن هذه الحقيقة لا بد وأن تظهر للعيان يوماً ما ..

ويمضي الجيلي شارحاً معتقده فيقول ..

"وأما الطباعية فإنهم عبدوه من حيث صفاته الأربع .. ، لأن أربعة الأوصاف الإلهية .. التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة أصل بناء الوجود فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مظاهرها في عالم الأكوان، فالرطوبة مظهر الحياة، والبرودة مظهر العلم، والحرارة مظهر الإرادة، واليبوسة مظهر القدرة. وحقيقة هذه المظاهر ذات الموصوف بها سبحانه وتعالى .. فعبدت هذه الطبائع لهذا السر فمنهم من علم ومنهم من جهل العالم سابق، والجأهل لاحق فهم عابدون للحق من حيث الصفات، ويؤول أمرهم إلى السعادة كما آل أمر من قبلهم إليها بظهور الحقائق التي بني أمرهم عليها" (ص١٢٣ - ١٢٤).

وهكذا يقرر الجيلي أن الفلاسفة الطبائعيين الذين قالوا برجوع الطبيعة إلى العناصر الأربعة هم عابدون لله شاؤوا أم أبوا، علموا أم جهلوا، وأن أمرهم إلى السعادة الأبدية. ويستدل لهذا الكفر الشنيع أيضاً بالقرآن فيقول: "والدليل من القرآن أن الله قال في الأحزاب المختلفين كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:٥٣] فيقول: "إن فرحهم هذا في الدنيا والآخرة، فكل حزب يفرح بما عنده في الدنيا، ويفرح به أيضاً في الآخرة عندما يطلع الجميع أنه لا ثمة إلا الله وأنهم جميعاً مظاهر للذات الإلهية، وليسوا شيئا خارجاً عنها".

<<  <  ج: ص:  >  >>