للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في القصد إليه، فإذا أنا بملك مد يده فرفعني، ثم رأيت كأني عرجت إلى السماء السابعة، فإذا بمائة ألف صف من الملائكة استقبلني. كل صف مثل الثقلين ألف ألف مرة، مع كل ملك لواء من نور، تحت كل لواء ألف ألف ملك، طول كل ملك مسيرة خمسمائة عام، وكل على مقدمتهم ملك اسمه بريائيل، فسلموا علي بلسانهم ولغتهم، فرددت عليهم السلام بلسانهم فتعجبوا من ذلك، فإذا مناد ينادي: يا أبا يزيد: قف قف؛ فإنك قد وصلت إلى المنتهي، فلم ألتفت إلى قوله ثم لم يزل يعرض علي من الملك ما كلت الألسن عن نعته، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، وكنت أقول: يا عزيزي مرادي غير ما تعرض علي، فلما علم الله تعالى مني صدق الإرادة في مقصدي إليه صيرني طيراً، كأن كل ريشة من جناحي أبعد من الشرق إلى الغرب ألف ألف مرة، فلم أزل أطير في الملكوت، وأجول في الجبروت، وأقطع مملكة بعد مملكة، وحجباً بعد حجب، وميداناً بعد ميدان، وبحاراً بعد بحار، وأستاراً بعد أستار، حتى إذا أنا بملك المرسى استقبلني، ومعه عمود من نور، فسلم علي ثم قال: خذ هذا العمود، فأخذته فإذا السماوات بكل ما فيها قد استظل بظل معرفتي، واستضاء بضياء شوقي، والملائكة كلهم صارت كالبعوضة عند كمال همتي في القصد إليه، ففي كل ذلك علمت أنه بها يجربني، فلم ألتفت إليها إجلالاً لحرمة ربي الله تعالى.

ثم لم أزل أطير وأجول مملكة بعد مملكة، وحجباً بعد حجب، وميداناً بعد ميدان، وبحاراً بعد بحار، وأستاراً بعد أستار، حتى انتهيت إلى الكرسي، فإذا قد استقبلني ملائكة لهم عيون بعدد نجوم السماوات، يبرق من كل عين نور تلمع منه، فتصير تلك الأنوار قناديل، أسمع من جوف كل قنديل تسبيحاً وتهليلاً، ثم لم أزل أطير كذلك حتى انتهيت إلى بحر من نور تلاطم أمواجه يظلم في جنبه ضياء الشمس، فإذا على البحر سفن من نور، يظلم في جنب نورها أنوار تلك الأبحر، فلم أزل أعبر بحاراً بعد بحار حتى انتهيت إلى البحر الأعظم الذي عليه عرش الرحمن، فلم أزل أسبح فيه حتى رأيت ما من العرش إلا الثرى من الملائكة الكروبيين وحملة العرش، وغيرهم ممن خلق الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض، أصغر من حيث طيران سري في القصد إليه، من خردلة بين السماء والأرض، ثم لم يزل يعرض علي من لطائف بره وكمال قدرته وعظم مملكته ما كلت الألسن عن نعته وصفته، ففي كل ذلك كنت أقول: يا عزيزي مرادي في غير ما تعرض لي، فلم ألتفت إليه إجلالاً لحرمته فلما علم الله سبحانه وتعالى من صدق الإرادة في القصد إليه فنادى: إلى إلي، وقال: يا صفي ادن مني، وأشرف على مشرفات بهائي، وميادين ضيائي، واجلس على بساط قدسي حتى ترى لطائف صنعي في آنائي، أنت صفيي وحبيبي، وخيرتي من خلقي، فكنت أذوب عند ذلك كما يذوب الرصاص، ثم سقاني شربة من عين اللطف بكأس الأنس، ثم صيرني إلى حال لم أقدر على وصفه، ثم قربني منه، وقربني حتى صرت أقرب منه من الروح إلى الجسد، ثم استقبلني روح كل نبي يسلمون علي ويعظمون أمري ويكلمونني وأكلمهم، ثم استقبلني روح محمد صلى الله عليه وسلم، ثم سلم علي، فقال: يا أبا يزيد: مرحباً وأهلاً وسهلاً، فقد فضلك الله على كثير من خلقه تفضيلاً، إذا رجعت إلى الأرض اقرأ لأمتي مني السلام، وانصحهم ما استطعت، وادعهم إلى الله عز وجل، ثم لم أزل مثل ذلك حتى صرت كما كان من حيث لم يكن التكوين، وبقي الحق بلا كون ولا بين ولا أين ولا حيث ولا كيف، جل جلاله وتقدست أسماؤه. قال أبو القاسم العارف رضي الله عنه: معاشر إخواني عرضت هذه الرؤيا على أجلاء أهل المعرفة فكلهم يصدقونها ولا ينكرونها، بل يستقبلونها عند مراتب أهل الانفراد في القصد إليه، ثم يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن العبد لا يزال من الله والله منه ما لم يجزع فإذا جزع وجب عليه العتاب والحساب)) وروي أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم ((أن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله ولا ينكره إلا أهل الغرة بالله)) (١) أ. هـ منه بلفظه (ملحق رقم (٢) لكتاب (المعراج) منقول من مخطوطة حيدر آباد بعنوان القصد إلى الله).

المصدر:الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق - ص ٢٠١ - ٢٠٦


(١) رواه الديلمي في ((المسند)) والسلمي في ((الأربعين)) كما في ((الترغيب والترهيب)) قال المنذري: [لا يتطرق إليه احتمال التحسين] وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوي)) (١٣/ ٢٥٩): ليس إسناده ثابتا باتفاق أهل المعرفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>