"وقد اجتمعت مرة في بقعة من ساحل البحر المحيط الذي هو من وراء جبل قاف برجل من النقباء أصفر اللون مربوع القامة كثيف اللحية صبيح الوجه، فوجدته فانياً في التجليات، غائباً في أنوار المشاهدات وقدمه على قدم سيدنا يعقوب عليه السلام، وورده القائم به آخر سورة الحشر، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:٢٢] .. الخ السورة. وهو مسقي بثلاثة عشر اسماً من أسماء الله تعالى الحسنى، ولكنه متحير في مقامه، ويطلب التخلص منه فما وجد له سبيلاً، فسلمت عليه، فإذا هو في غاية الاستغراق شاخصاً ببصره إلى الطباق، فإنه يشير إلى البحر الذي هو بساحله ففهمت منه أنه يشتكي إلى بصعوبة تخليصه من هذا المقام، كأنه يقول إن خلاصه منه أصعب حالاً من شراب ماء هذا البحر، لأنه هو البحر الأخضر، ماؤه مر لا يستطيع أحد الشراب منه، لأن الذي يشرب منه يهلك حالاً من شدة مرارته، فوجدت بيد الرجل رمانة مغلوقة وأكلت معه منها، فلما عرفته بوسمه وخاطبته باسمه قلت له ما المقصود؟
قال: مشاهدة الملك المعبود.
فلما عرفني فهمت لغزه وأدركت رمزه، وتحقق أنني مفيده فيما يريده أخذ يطلبني من غير انفكاك عني وصحبني إلى محل بعيد، فأخذت له في المقال وأطلقت له لسان الحال إلى أن شاهدنا الكنوز المستورة تحت قباب الرموز من البحر الأسود الذي انتهي إليه المورد، فإن هذا البحر رسمه معدوم وظاهره مكتوم فلا أستطيع فيه التعبير ولم أتعرض إلى البيان فيه والتفسير فمن ثم أخذ مني بعض أذكار مصاحبة أنواره وانصرف بسبيله إلى مشاهدة دليله، وفي حين تقييدي لهذا المحل اجتمعت معه فوجدته في حال عظيم ومقام فخيم فأخبرني أنه حصلت له مني مفاتحات عظيمة وإمدادات كريمة حين أكلت معه في تلك الرمانة، فحكى لي شيئا من حاله، ووجدته سقى بخمسة وثلاثين اسماً من أسمائه تعالى، وصار في زيادة بابتهاج طريقه الأعلى. وقد اجتمعت في ساحل البحر الأحمر برجال من أرباب الأحوال لم يزالوا في دلالة المخلوقين إلى طريق معرفة رب العالمين فإذا أمعن ناظرهم فكرة يحقق أنهم ليس لهم اشتغال أبداً بغير هذا، ثم أمور لا سبيل إلى ذكرها بقصور الوقت وضيقه عنها، فانتهج أيها العاقل وكابد في خوض المقامات والمنازل فإن الله تعالى حكيم كريم يورثك من علم سره العظيم أنه واهب جليل والله على ما نقول وكيل وهو يهدي السبيل" انتهي (كتاب مشارق شموس الأنوار ص١٥٩،١٦٠).
وقد يسأل السائل ما الداعي لكل هذا الكذب والانحراف، وما الذي يدفع هؤلاء إلى كل هذا التخريف والتكلف، هل هم عقلاء أو مجانين وإن كانوا عقلاء فماذا يريدون. وقطعاً لهذه التساؤلات يجيب المؤلف نفسه عن مراده وذلك في آخر كتابه فيقول:
المغرب التاسع: في عين خاتمة الكتاب:
كيفية صفة الخلوة للمؤلف وغير ذلك من الأدعية المرجية
اعلم أيها الابن المجتهد والمحتسب المقتصد، أن كل خير لا ترقى ذروته إلا بجهد النفس وأتعابها فيه، وقد تكلمنا لك فيما تقدم من المجاهدات والمكابدات، وأن الطرق الموصلة إلى الله تعالى لا تحصى، وكل صاحب طريقة أدرى بما فيه الصلاح لمن يسلكها، ولما أنعم الله علي بنيل هذا المقام وجعلني من خواصه الكرام أذن لي في التكلم والظهور وإبداء طريقة أستقبل بها وأسلك بها المريدين لأجل أن يصلوا بها، إلى حضرة الغفور، فحصل الأمر كما أمر واشتهر ذلك واستمر، فلما أذنت من الحضرتين بإظهار كل ما نراه يصلح لأهل طريقتي بلامين وأفاض علي الوهاب بوارد تأليف هذا الكتاب أردت أن أختمه بصفة خلوتي التي تصلح لأهل طريقتي كما فعل قبلي أهل الطرق بنظرهم الذي يصلح لأهل طرائقهم، وجعلت كيفية هذه الخلوة رسالة مستقرة وأفردتها في هذا المغرب لأجل أن يسهل نقلها ونظرها لمن له رغبة فيها، فمن أراد نقل جميع الكتاب فهي من جملته، ومن أراد الاستقلال بها فليفردها منه من أول البسملة إلى حد الخاتمة الآتية، وهي هذه" انتهي منه بلفظه (كتاب مشارق شموس الأنوار ص١٦١).
الخلاصة أن الرجل يريد أن يبني له طريقة خاصة لتسليك المريدين، وجمع الأغبياء والمغفلين ومن ثم جمع النذور والقرابين، وبالتالي جعل نفسه في مكان الملوك والسلاطين!!! هذه هي النهاية التي يسعى إليها ملوك التصوف، وأئمة الضلالة ومن أجل هذا كذبوا على الله هذا الكذب المبين ولا يسع المسلم إلا أن يحمد الله على العافية مما ابتلي به هؤلاء المارقون الكاذبون والحمد لله رب العالمين.
المصدر:الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة لعبد الرحمن عبد الخالق- ص٢٠٧ - ٢١٨