للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(أما إنّا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرد هذه القطيفة، فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وأبرئي منهن. ففعلت. فلما جاء الرسول بكى عمر حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده (١).وعمر الفاروق رضي الله عنه (ذو المقام الثابت المأنوق، أعلن الله تعالى به دعوة الصادق المصدوق، وفرق به بين الفصل والهزل، وأيد بما قواه به من لوامع الطول، ومهد له من منائح الفضل شواهد التوحيد، وبدد به مواد التنديد، فظهرت الدعوة، ورسخت الكلمة، فجمع الله تعالى بما منحه من الصولة، ما نشأت لهم من الدولة، فعلت بالتوحيد أصواتهم بعد تخافت، وتثبتوا في أحوالهم بعد تهافت، غلب كيد المشركين بما ألزم قلبه من حق اليقين، لا يلتفت إلى كثرتهم وتواطيهم، ولا يكترث لممانعتهم وتعاطيهم، إتكالا، اتكالا على من هو منشئهم وكافيهم، واستنصارا بمن هو قاصمهم وشافيهم، محتملا لما احتمل الرسول، ومصطبرا على المكاره لما يؤمل من الوصول، ومفارقا لمن اختار التنعم والترفيه، ومعانقا لما كلف من التشمر والتوجيه، المخصوص من بين الصحابة بالمعارضة للمبطلين، والموافقة في الأحكام لرب العالمين، السكينة تنطق على لسانه، والحق يجري الحكمة عن بيانه، كان للحق مائلا، وبالحق صائلا، وللأثقال حاملا، ولم يخف دون الله طائلا (٢).

و (كان بين كتفيه أربع رقاع، وإزاره مرقوع بأدم، وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر دينارا، وقال لابنه: قد أسرفنا. وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقى كساءه على الشجر ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط (٣).

وقال في وصيته التي وصى بها ابنه في آخر لحظة من عمره، وقد استسلف مالا من بيت مال المسلمين: (بع فيها أموال عمر، فإن وفت وإلا فسل بني عدي، وإن وفت وإلا فسل قريشا ولا تعدهم (٤).

وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاجه ردّا على الشيعة الذين قالوا: إن عليا كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

(أزهد الناس بعد رسول الله الزهد الشرعي أبو بكر وعمر، وذلك أن أبا بكر كان له مال يكسبه فأنفقه ماله في سبيل الله ... ولقد تلا أبا بكر عمر في هذا الزهد، وكان فوق علي في ذلك يعني في إعراضه عن المال واللذات. وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا المال من حله، ومات عن أربع زوجات وتسعة عشر أم ولداً سوى الخدم، وتوفي عن أربعة وعشرين ولدا من ذكر وأنثى، وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به أغنياء قومهم ومياسيرهم، هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار ... فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر رضي الله عنه أزهد من جميع الصحابة رضي الله عنهم، ثم عمر (٥).


(١) ((طبقات بن سعد)) (ص١٩٦).
(٢) ((حلية الأولياء)) للأصفهاني (١/ ٣٨).
(٣) ((البداية والنهاية)) لابن كثير (٧/ ١٣٤، ١٣٥).
(٤) ((طبقات ابن سعد)) (٣/ ٣٥٨).
(٥) ((منهاج السنة النبوية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية (٤/ ١٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>