للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما أريته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون في: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:٢ - ١] حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئا، فقال لي: يا ابن عباس أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله أعلمه الله له: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:١] فتح مكة، فذاك علامة أجلك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:٤ - ٣] قال عمر رضي الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم " (١).

والشاهد هنا أن ابن عباس رضي الله عنه فهم من خطاب الله معنى خفيا وراء ظاهر الألفاظ لم يدركه عامة الصحابة في مجلسهم، وهذا يشبه عمل الصوفية في التفسير الإشاري.

ومثله أيضا ما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله جلس على المنبر فقال: " إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) (٢).

فأبو بكر الصديق فهم بطريق الإشارة ما لم يفهمه عامة الصحابة وأسعد بذلك رسول الله وكان الأمر كما قال.

وعن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ وَيَتوَلاهَا رَجُلٌ وَاللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ، يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يَا أهل الْعِرَاقِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:١٦١] فَالْقُوا اللهَ بِالْمَصَاحِفِ (٣).

فالغلول، وهو إخفاء الغنائم طمعا قبل تقسيمها فعل المجرمين، وظاهر الآية ورد في عقابهم وفضحهم يوم القيامة، وقد استخدمها ابن مسعود رضي الله عنه بطريق الإشارة فيمن غل القرآن وأخفاه، ويرد عليهم بأن الصحابة انكروا عليه ذلك فقَالَ الزُّهْرِيُّ:

(فَبَلَغَنِي أَنَّ ذَلِكَ كَرِهَهُ مِنْ مَقالَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ)

المصدر:المعجم الصوفي لمحمود عبد الرازق ١/ ١٢٠ - ١٢٣


(١) رواه البخاري (٤٢٩٤)
(٢) رواه البخاري (٣٩٠٤) ومسلم (٢٣٨٢)
(٣) انظر للمقارنة والتوسع في هذه النقطة، ((الفكر السياسي عند الباطنية)) وموقف الغزالي منه، إعداد أحمد عرفات أبو الحسن القاضي رسالة ماجستير بكلية دار العلوم جامعة القاهرة ١٩٨٨م، الفصل الخاص بحيل الباطنية وأصناف المتبعين لهم (ص ١٩/ ٢١٧). و ((مذهب التأويل عند الشيعة الباطنية))، دراسة تحليلية نقدية، إعداد محمد محمود عبد الحميد رسالة ماجستير بالموضع السابق سنة١٩٨٣، وانظر أيضا ((الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ومنهجهم في التفسير)) إعداد محمد محمد إبراهيم العسال، رسالة دكتوراه بمكتبة كلية أصول الدين، جامعة الأزهر الشريف بالقاهرة سنة١٩٨١م

<<  <  ج: ص:  >  >>