فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب. فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه.
وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص: ٥٠]. ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ [المائدة: ٧٧]، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء.
فحملهم هواهم على أن تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله - فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الكبار على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغور -على ما ذكر لي- وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب. فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلباً للبيان والتبصرة، ورجاء المنعة والتذكرة. فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له هم مشتكون، فقال ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً لم يبلغني جميعه؛ لكن حدثني من كان حاضراً أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان في الحق معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلي بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.
فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان. فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا إليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبدالله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.