للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣ـ الطريق الثالث في التحذير من الفرقة: بيان أن الفرقة والاختلاف كانت سبب هلاك الأمم الماضية ولقد جاءت نصوص كثيرة تحذر من الفرقة بالتنبيه على هذا الأمر المهم والتأكيد عليه ليحذر المسلم من ذلك ويعتبر بمن سبق ويلزم الجماعة ففيها العصمة. ففي الحديث عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((سمعت رجلا قرأ آية وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: " كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) (١).فانظر كيف كره رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلافهم مع أن كلا القِرَاءتين صحيحة حيث قال: كلاكما محسن " فهو مصيب إذ قرأ ما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد كره اختلافهما ونهاهما عن ذلك فقال: ولا تختلفوا، وعلل سبب النهي بقوله: فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا فما كان الاختلاف يؤدي إلى الفرقة المؤدية إلى الهلكة كرهه صلى الله عليه وسلم ونهى عنه (٢) ولقد فقه الصحابة رضي الله عنهم هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلموا أن الفرقة تؤدي إلى الهلكة معتبرين بحال أهل الكتاب السابقين فلقد قدم حذيفة بن اليمان على عثمان رضي الله عنهما وكان حذيفة يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى (٣).يقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية معلقاً على حديث ابن مسعود السابق وأثر حذيفة بعد سوقهما: " فأفاد ذلك بشيئين: أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا. والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم. (٤)

ولقد وردت نصوص كثيرة من السنة النبوية ووقائع متعددة في اختلاف بعض الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمور الدين فيخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضبا مستنكرا لاختلافهم محذرا إياهم مبينا لهم أن هذا الاختلاف كان سبب هلاك الأمم السابقة. فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال: إنما هلك من كان من الأمم باختلافهم في الكتاب)) (٥). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان! " أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا؛ إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه)) (٦) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر؛ عزمت عليكم عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه)) (٧)

ولقد ذكرت روايات عدة ليتبين للقارئ مقدار إنكاره عليه الصلاة والسلام للاختلاف في دين الله؛ لأنه من موجبات الفرقة التي هي من أسباب الهلكة ولأن هذا الاختلاف هو سبب هلاك من قبلنا وسبب ضلالهم.

فهل يعتبر سفهاء زماننا الذين يبحثون عن زلات العلماء ويعلنونها ويبحثون عن اختلافات الفقهاء ليبرزوها؟ دون فقه وفهم لأسباب الاختلاف ولا حتى لأنواعه فضلا عن أدبه. وهل يعتبر المسلمون وينظرون إلى أن سبب انحطاطهم وتخلفهم وتسلط الأعداء عليهم هو بسبب تفرقهم إذ الفرقة هي الهلكة والعصمة والنجاة لا تكون إلا بالجماعة والاجتماع على الحق: على طاعة الله ورسوله.

وما فتئ أعداء الدين يحيكون الخطط ويدسون الدسائس لإضعاف المسلمين بتفريق جماعتهم وتشتيت كلمتهم كما سيتضح في الآتي إن شاء الله.

المصدر:موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص١٦٣ - ١٧١


(١) ([١٦١]) رواه البخاري (٣٤٧٦).
(٢) ((فتح الباري) (١٣/ ١٠١).
(٣) رواه البخاري (٤٩٨٧)
(٤) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (١/ ٦٥).
(٥) رواه مسلم (٢٦٦٦).
(٦) رواه ابن ماجه (٨٥)، وأحمد (٢/ ١٩٥) (٦٨٤٥)، والطبراني في ((الأوسط)) (٢/ ٧٩)، وقال صاحب ((الزوائد)) عنه هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): حسن صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): صحيح وهذا إسناد حسن.
(٧) رواه الترمذي (٢١٣٣)، وأبو يعلى (١٠/ ٤٣٣). وقال: وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المري، وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (١/ ٩٨) – كا أشار لذلك في مقدمته -، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).

<<  <  ج: ص:  >  >>