في هذا المحيط العلمي المشبع بالتصوف ولد السيد محمد عثمان بمكة عام (١٢٠٨هـ/١٧٩٣م)، وتوفيت والدته في اليوم السابع من ولادته ورباه والده إلى أن بلغ العاشرة، وعهد بتربيته قبيل وفاته إلى عمه السيد محمد ياسين الذي كان أحد أعلام مكة وعلمائها كما أشرنا. وقد درس السيد محمد عثمان وتلقى العلم على يد عدد من علماء مكة من بينهم عمه السيد محمد ياسين، وحصل في وقت مبكر على علوم العربية والشريعة الإسلامية، حيث درس الفقه والحديث والتفسير واللغة وألف وصنف في هذه الفنون، وكتب كتاب (تاج التفاسير)، وبعض الرسائل في اللغة والتوحيد ومصطلح الحديث. ولكن غلب عليه الاهتمام بالتصوف فدرس علوم الصوفية وسلك طريقهم عبادة وسلوكا، وغلب على مؤلفاته نثرا وشعرا هذا النهج الصوفي، إذ دفعه التطلع إلى معرفة أسرار التصوف إلى الوقوف على العديد من الطرق فأخذ الطريقة النقشبندية من عدة مشايخ وبأسانيد متنوعة، وانخرط في سلك الطريقة القادرية، وتأدب بأدب الطريقة الجندية، كما تلقى الطريقة الميرغنية طريقة جده عبد الله الميرغني، والطريقة الشاذلية على يد السيد أحمد بن إدريس، حتى صار من أقطابها، واستطاع في النهاية أن يؤسس طريقة خاصة به جمع فيها من كل هذه الطرق واعتبرها خاتمة الطرق جميعها وعرفت بالطريقة (الختمية). ورغم أن السيد محمد عثمان تلقى العلم الصوفي وأخذ الطريقة على العديد من المشايخ فإنه مدين من بين هؤلاء جميعا للسيد أحمد بن إدريس، الذي أخذ منه ولازمه كأخلص ما يكون التلميذ لشيخه حتى وفاته عام ١٨٣٨م، وكان السيد محمد عثمان من ألمع تلاميذ السيد أحمد بن إدريس وأقواهم منطقا وأكثرهم قبولا لدى العامة، ولذلك انتدبه شيخه إلى السودان لكي يبشر بالإسلام ويدعو إلى الطريقة الإدريسية الشاذلية، فأبحر السيد محمد عثمان من مكة إلى سواكن، ولكنه وجد الطريق إلى الداخل عبر الجبال غير مؤتمن ومن ثم ركب البحر الأحمر إلى بلدة قصير المصرية الساحلية، ودخل إلى أسوان داعيا إلى الطريقة، ولكن دعوته لم تجد قبولا فدخل بلاد النوبة جنوبا حيث صادف نجاحا كبيرا، ومنها سار إلى منطقة المحس فدنقلا. وفي تلك المناطق السودانية وجد من الناس قبولا لدعوته وترحيبا بالدخول في الطريقة والولاء لها.
ورأى السيد محمد عثمان أن يتوغل برسالته إلى أعماق السودان فاتجه غربا واتخذ طريقه من الدبة بصحراء بيوضة إلى شمال كردفان وأقام فترة في تلك المناطق يبشر بالإسلام بين القبائل الوثنية ويدعو أهالي كردفان إلى طريقة شيخه أحمد بن إدريس. وقد وجد استجابة محددة لدعوته في منطقة بارا وتزوج منها كريمة السيد محمود جلاب، وأنجبت له السيد الحسن الميرغني عام ١٢٣٥هـ - ١٨١٩م)، الذي نشر الطريقة فيما بعد في السودان على أوسع نطاق. ومن شمال كردفان توجه السيد محمد عثمان إلى سنار عاصمة دولة الفونج، ويصف نعوم شقير أحداث زيارته قائلا: وفي عام ١٢٣٢/ ١٨١٧م حضر إلى سنار الشريف السيد محمد عثمان الميرغني مؤسس الطريقة الميرغنية في السودان، وقابل حكامها ودعا الناس إلى أخذ الطريقة، فلم يأخذها عنه إلا القليل، وأرسل حكام سنار إلى الفقيه إبراهيم بن بقادي ليناظر السيد المذكور ويختبره، فمرض حال وصوله إلى سنار وتوفي فيها قبل أن يجتمع به، ثم خرج السيد محمد عثمان الميرغني من سنار وكان عمره إذ ذاك ٢٥ سنة (١).
ومن سنار سار السيد محمد عثمان إلى البحر الأحمر، ومن هناك إلى الحجاز.