للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام تلقي الناس قوله الإمام مالك بالقبول، ذكر اعتراضا وأجاب عنه. قال: "فإن قيل: معنى قوله "الاستواء معلوم، أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم، كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه.

قيل: هذا ضعيف، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن، وقد تلا الآية. وأيضا فلم يقل: ذكر الاستواء في القرآن، ولا أخبار الله بالاستواء، وإنما قال: الاستواء معلوم، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم، لم يخبر عن الجملة.

وأيضا فقد قال: "والكيف مجهول" فلو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء، لا العلم بنفس الاستواء، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه، لو قال في قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: ٤٦]: كيف يسمع، وكيف يرى؟ لقلنا: السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول، ولو قال: كيف كلم موسى تكليما؟ لقلنا: التكليم معلوم والكيف غير معلوم.

وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة، وأن ذاته فوق ذات العرش، لا ينكرون معنى الاستواء، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية. ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة، قال بعض: ارتفع على العرش، علا على العرش، وقال بعضهم عبارات أخرى، وهذه ثابتة عن السلف، قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب (الرد على الجهمية) (١) " (٢).وتفاسير السلف لمعاني صفات الله تعالى يدل بشكل قاطع على أن ما يقصدونه بإمرار الصفات تفويض الكيفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، أما المعاني فإنهم كانوا يفهمونها (٣).

٣ - أما قولهم إن السلف لم يكونوا يفهمون من النصوص ما يدل على التجسيم، ولا أن ذاته تعالى فوق العرش - وهذا في مسألة العلو الاستواء - فقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه منها:

أ- "أحدها: أن يقال: فعلى هذا التقدير لا يكون المفهوم الظاهر من هذه النصوص إثبات العلو على العالم والصفات، ولا يجوز أن يقال: ظواهر هذه النصوص غير مراد، ولا أنه قد تعارضت الدلائل النقلية والعقلية، فإنه إذا قدر أنها لا تدل على الإثبات - لا دلالة قطعية ولا ظاهرة - بطل أن يكون في ظاهرها ما يفهم منه الإثبات. ومن المعلوم أن هذه خلاف قول الطوائف كلها من المثبتة والنفاة حتى من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وإنكار معاد الأبدان، فإنهم معترفون بما اعترف به سائر الخلق من أن الظاهر المفهوم منها هو إثبات الصفات ... (٤).


(١) ذكر ابن حجر في ((الفتح)) (١٣/ ٣٤٤) عند كلامه على عنوان "كتاب التوحيد" أن المستملي زاد: "الرد على الجهمية وغيرهم"، وأنه وقع لابن بطال وابن التين: "كتاب رد الجهمية"، وغيرهم: "التوحيد". وعبارات السلف في الاستواء ورد في باب (وكان عرشه على الماء) من هذا الكتاب. ((الفتح)) (١٣/ ٤٠٣).
(٢) ((الإكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٠٩ - ٣١٠).
(٣) انظر: ((شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى)) (٥/ ٣٦٥ - ٤١٣)، و ((تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى)) (١٧/ ٣٧٣ - ٣٧٤)) ـ و ((نقض التأسيس)) - مخطوط - (٢/ ٢٣٦).
(٤) انظر: ((درء التعارض)) (٧/ ١٠٧ - ١٠٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>