للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: أن إثبات صفة اليدين قد دلت عليه أدلة قطعية، لا مجال فيها لأي تأويل.

الثاني: أن قوله بِيَدِهِ الْمُلْكُ وإن قيل إن معناه بقدرته، غلا أن الآية تدل على إثبات اليد لله، لأنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة.

والخلاصة أن آية علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ من قال إن المقصود هو التحسر على التفريط في الإيمان والأعمال الصالحة، فليس قوله هذا تأويلا لصفة من الصفات، حتى يكون حجة لنفاة الصفات. وكذلك من اثبت بهذه الآية الصفة، فإنه أثبت صفة الجنب لله، وأثبت التفريط فيه، مثل قوله: بِيَدِهِ الْمُلْكُ، وقال: إنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له جنب. والله أعلم.٣ - ومن الأمثلة قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ [القلم: ٤٢] فإنه الصحابة والتابعين قد تنازعوا في هذه الآية، هل المقصود بها الكشف عن الشدة، أو المراد أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، "ولم تتنازع الصحابة والتابعون فيما ذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية، بخلاف قوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: ٢٧] ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيه الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك صفة لله تعالى لأنه قال يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ولم يقل عن ساق الله، ولا قال يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقا نكرة غير معرفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين (١) الذي قال فيه: ((يكشف ربنا عن ساقه)) (٢)، وقد يقال أن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا لله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضا فحمل ذلك على الشدة لا يصح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة، أي أزالها، كما قال فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف: ٥٠] وقال: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ [الأعراف: ١٣٥] وقال: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون: ٧٥]، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة: أي أزالها، فلفظ الآية يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وهذا يراد به الإظهار والإبانة" (٣).

وشيخ الإسلام يرجح دلالة الآية على الصفة، خاصة مع دلالة الحديث الواضحة، ومع ذلك فمن قال من السلف إن المراد بها الكشف عن الشدة، فليس قولهم تأويلا، ثم إنهم يثبتون هذه الصفة بالحديث الصحيح، فلو كان قصدهم التأويل – لذات التأويل – كما يدعي النفاة، لكان تأويلهم للحديث أولى، لكن لما أنهم لم يفرقوا بين دلالة الكتاب والسنة الصحيحة على إثبات الصفات، أثبتوا هذه الصفة بالسنة مع ترجيحهم أن الآية لها معنى آخر. فالنتيجة واحدة.

المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة – ٣/ ١١٥٠


(١) بهذا اللفظ رواه البخاري, ولم يروه مسلم.
(٢) رواه البخاري (٤٩١٩) ,.
(٣) ((نقض التأسيس)) – مخطوط – (٣/ ١٥ - ١٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>