للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا تحتاج هذه المناقشة إلى تعليق، لأن التناقض واضح في تفريقهم بين ما يلزم منه تجسيم وتشبيه وبين مالا يلزم منه ذلك، لأن هذه الصفات كلها يتصف بها المخلوق، فإن لزم في بعضها التشبيه لزم في الباقي، وإن لم يلزم في بعضها لم يلزم في الباقي.

ولذلك فإن الأشاعرة يرجعون في التفريق إلى دليل العقل، فيقولون: ما دل عليه العقل وجب إثباته، وما لم يدل عليه العقل فيجب نفيه، أو على الأقل التوقف فيه. يقول الأشعري – معللا تفريقه بين إثبات الصفات السبع ونفي ما عداها -: "تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك" (١).

وهناك يذكر شيخ الإسلام أن لسائر أهل الإثبات ثلاثة أجوبة: أحدها: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وهذا مبني على مسألة واضحة جدا يقر بها كل عاقل، وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم (٢)، فعدم علمي بوجود كتاب، أو مدينة من المدن المغمورة، أو وجود شخص ما - لا يعني أن هذه الأمور غير موجودة، بل قد تكون موجودة وقد يكون علمها غيري، فعدم علمي بها ليس علما بعدمها، وهذا لو أنكره إنسان لعد من أجهل الناس. ولذلك فإنه يقال لهؤلاء الأشاعرة: عدم الدليل المعين، الذي هو دليل العقل، والذي قلتم إنه لم يدل على ما عدا الصفات السبع، لا يستلزم عدم المدلول المعين الذي هو باقي الصفات، "فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت" (٣).الثاني: أن يقال: إذا كان دليل العقل لم يثبت هذه الصفات، - وعدم إثباته لها ليس دليلا على نفيها – فإن هناك دليلا آخر دل عليها، وهو دليل السمع "ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم" (٤).وهذا الوجه الثاني مترتب على الوجه الأول، ولذلك جمع بينهما في وجه واحد في التدمرية، وأفردهما عن بعض في (مجموع الفتاوى) (٥).الثالث: "أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في معقولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم وأعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة" (٦).


(١) ((التدمرية)) (ص: ٣٣) – المحققة.
(٢) انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: ١٠٠).
(٣) ((التدمرية)) (ص: ٣٣ - ٣٤) – المحققة، وانظر في تقرير هذا الوجه: ((شرح الأصفهانية)) (ص: ٩) – ت مخلوف – و ((درء التعارض ٤/ ٥٩ - ٦٠)، ((التسعينية)) (ص: ٢٤٢ - ٢٤٣، ٢٥٨).
(٤) ((التدمرية)) (ص: ٣٤) – المحققة.
(٥) ((قارن التدمرية)) (ص: ٣٣ - ٣٤) – المحققة، ((بمجموع الفتاوى)) (٦/ ٤٦).
(٦) ((التدمرية)) (ص: ٣٤ - ٣٥) – المحققة.

<<  <  ج: ص:  >  >>