وكلما ازدادت النفس عن عالم الحسيات بعدا ازدادت للعلوم الروحانية استعدادا وكذلك إذا ركدت الحواس بالنوم اطلعت على عالم الغيب واستشعرت ما سيظهر في المستقبل إما بعينه فيغني عن المعبر أو بمثال فيحتاج إلى التعبير فالنوم أخو الموت وفيه يظهر علم ما لم يكن في اليقظة فكذا الموت تنكشف أمور لم تخطر على قلب بشر في الحياة وهذا للنفوس التي قدستها الرياضة العملية والعلمية فأما النفوس المنكوسة المغمورة في عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تبقى أبد الدهر في النار على معنى أنها تبقى في العالم الجسماني تتناسخها الأبدان فلا تزال تتعرض فيها للألم والأسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر ولذلك قال تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء:٥٦] فهذا مذهبهم في المعاد وهو بعينه مذهب الفلاسفة وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة فكل واحد نصر مذهبهم طمعا في أموالهم وخلعهم واستظهارا باتباعهم لما كان قد ألفه في مذهبه فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة عن نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة ثم ما أوهموه وهذوا به لا يفهم في نفسه ولا يؤثر في ترغيب وترهيب
المصدر:فضائح الباطنية لأبي حامد الغزالي - ص٤٤
وكلهم أنكروا القيامة، وقالوا: هذا النظام، وتعاقب الليل والنهار، وتولد الحيوانات لا ينقضي أبدا. وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام، ولم يثبتوا الحشر ولا النشر ولا الجنة ولا النار، ومعنى المعاد عندهم عود كل شيء إلى أصله. قالوا: فجسم الآدمي يبلى، والروح إن صفت بمجانبة الهوى، والمواظبة على العبادات، وغذيت بالعلم، استعدت بالعود إلى وطنها الأصلي، وكمالها بموتها، إذ به خلاصها من ضيق الجسد، وأما النفوس المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة المعصومين، فإنها أبدا في النار، على معنى أنها تتناسخ في الأبدان الجسمانية، وكلما فارقت جسدا تلقاها آخر، واستدلوا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: ٥٦]. وأكثر مذاهبهم يوافق الثنوية والفلاسفة في الباطن والروافض في الظواهر؛ وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة من نفوس الناس حتى تبطل الرغبة والرهبة.