للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومسألة المحكم والمتشابه اكتسبت أهمية خاصة عند كثير من المتأخرين، لما دخل فيهما من موضوعات مهمة كانت مثار خلاف وجدل بين العلماء. والملاحظ أن ما كتبه الفخر الرازي في تفسيره (١)، وفي كتابه (أساس التقديس) (٢) حول المحكم والمتشابه وما يتعلق بهما - أصبح مرجعا أساسا لكثير ممن أتى بعده، وإن كان قد سبق إلى ذلك بعض الأشاعرة (٣) والمعتزلة (٤).

وليس المقصود تتبع مباحث المحكم والمتشابه، لأن هذه لها مناسبات أخرى، وإنما المقصود بيان أن أهم الأمور التي ركز عليها الرازي في ذلك أربعة أمور:

١ - أنه لابد من قانون أصلي لمعرفة المحكم والمتشابه، ثم بين أنه لا يجوز ترك الظاهر الذي دلت عليه الآية والخبر إلا بدليل منفصل، ثم ذكر أن هذا الدليل المنفصل إما لفظي وإما عقلي. أما الدليل اللفظي المنفصل فإذا عارض دليل آخر فليس ترك أحدهما لإبقاء الآخر أولى من العكس. ثم رد الرازي على زعم أن الدليل اللفظي قد يكون قاطعا فيجب تقديمه لذلك: بأن "الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وعلى عدم الاشتراك، والمجاز، والتخصيص، والإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي. وكل واحد من هذه المقدمات مظنونة، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيا (٥). كما رد على من قال إن أحد الظاهرين أقوى فيعول عليه بأنه "على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني مقدمة ظنية، والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية" (٦).ولما أبطل التعويل على الدليل اللفظي عول على الدليل العقلي المنفصل فقال: "فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القاطع على أن ظاهره محال ممتنع، فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره. ومن لم يجوزه فوض علمه إلى الله تعالى" (٧).

وخلاصة رأى الرازي أن الآية والخبر تصير متشابهة ويجب عدم اعتقاد ظاهرها بتأويل أو تفويض - إذا عارضها الدليل العقلي القاطع.

٢ - ومن الأمور التي ركز عليها الرازي إدخاله الصفات في المتشابه، ومعلوم أن كتابه (أساس التقديس) خصصه لمناقشات نصوص الصفات وتأويلها، وقد ناقش فيه بإسهاب موضوع المحكم والمتشابه ناصرا مذهبه الذي سار عليه.٣ - ومن الأمور التي ذكرها أن الحكمة من إنزال المتشابه مراعاة أحوال العوام في أول أمرهم فيخاطبون بما يدل على التجسيم والتحيز والجهة لأن ذلك يناسب ما تخيلوه وتوهموه. فهذا الذي يخاطبون به من باب المتشابهات، ثم يكشف لهم آخر الأمر استحالة هذه الأمور، الذي هو المحكمات (٨).٤ - أنه قرر مذهب السلف بقوله: "حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها" ثم قرر مذهب المتكلمين بقوله: "وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات" (٩). ثم لما ذكر حجج مذهب السلف من الوقف على قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، إجماع الصحابة على عدم التأويل، قال عن المتكلمين أن حجتهم: "أن القرآن يجب أن يكون مفهوما، ولا سبيل إليه في الآيات المتشابهة إلا بذكر التأويل فكان المصير إليه حتما" (١٠)

المصدر:موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - ٣/ ١١٢٢


(١) (٧/ ١٦٦ وما بعدها).
(٢) (ص: ١٧٨ - ١٩٢) - ط الحلبي.
(٣) كالجويني في ((الشامل)) (ص: ٥٥٠ - ٥٥٣)، فقد تعرض لذلك عند حديثه عن صفة الاستواء.
(٤) كعبد الجبار الهمذاني المعتزلي في كتاب ((متشابه القرآن))، (ص: ٥ وما بعدها)، وقد نص على أنه يجب أن يرتب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقل. انظر (ص: ٧)، وقد أخذ الرازي بقوله هذا.
(٥) ((أساس التقديس)) (ص: ١٨٢) - ط الحلبي، وانظر ((متشابه القرآن)) (ص: ٨٤١ - ٨٤٢).
(٦) ((أساس التقديس)) (ص: ١٨٢) - ط الحلبي.
(٧) ((أساس التقديس)) (ص: ١٨٢) - ط الحلبي.
(٨) ((أساس التقديس)) (ص: ١٩٢) - ط الحلبي.
(٩) ((أساس التقديس)) (ص: ١٨٢ - ١٨٣).
(١٠) ((أساس التقديس)) (ص: ١٨٧) - ط الحلبي، و (ص: ٢٤٠) - ت السقا.

<<  <  ج: ص:  >  >>