وهذا الجواب على سبيل التنزل في الجدال، وإلا فعيسى عليه السلام لم يمت كما تقرر آنفا.
جاء في الرسالة (ص١): (لو كان من الممكن رجوع نبي من الأنبياء إلى هذه الدنيا لكان نبينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أولى وأجدر بأن يرسل مرة ثانية؛ لكماله وفضائله وتفوقه على سائر الأنبياء عليهم السلام).
والجواب: أولا: هذه الشبهة مغالطة مكشوفة؛ لأن الكلام ليس في رجوع نبي بعد موته، وإنما في نزوله وهو حي إلى الأرض؛ فسقطت الشبهة من أصلها.
ثانيا: لا يلزم من أفضلية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء أن يثبت له جميع ما يقع لإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدلائل والبراهين – التي تسمى: المعجزات - وإلا فطرد كلامهم يلزم منه عدم صحة ما جاء في القرآن من أن عيسى عليه السلام كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله؛ لأن ذلك لم يقع لنبينا عليه الصلاة والسلام، ومثل ذلك يقال عن عصا موسى عليه السلام وغيرها من آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكل جواب لهم على هذا الإيراد هو جوابنا عليهم في شبهتهم.
ثالثا: أن فيما قدره الله سبحانه من رفع عيسى حيا ثم نزوله في آخر الزمان حكما عظيمة، منها: الرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه عليه الصلاة والسلام، وأنه هو الذي يقتلهم ويقتل الدجال معهم.
جاء في الرسالة ص٢ إيراد شبهة لإنكار رفع عيسى عليه السلام، وهي قولهم: (لقد رُفع عيسى بنفس الطريقة التي رُفع بها الأنبياء الآخرون، فقد قال الله عز وجل في شأن إدريس عليه السلام: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:٥٧]، ونفس المعنى لرفع عيسى عليه السلام في الآية الكريمة: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:٥٥]، فليس هنالك ذكر للفظ السماء، وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله سوف يفشل خطة اليهود بقتل عيسى عليه السلام على الصليب ليثبتوا أنه - والعياذ بالله – ملعون من الله، وسوف يرفع درجته ويجعله من المقربين، ورفعت روحه كما رفعت أرواح الأنبياء الآخرين).
والجواب: أولا: أن لأهل العلم بالتفسير أقوالا عدة في تفسير قوله تعالى عن إدريس: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:٥٧]، فمن أهل العلم من قال: إن الله عز وجل رفعه حيا إلى السماء ومات بها، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما من السلف، فعلى هذا تكون الآية دليلا عليهم لا لهم.
وقيل: المقصود رفعه في الجنة، والجنة – ولا شك – سيدخلها بجسده وروحه، وذكر الفعل الماضي لا يشكل على هذا؛ إذ هو من باب تأكيد الوقوع، كقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:٧٣]، وقوله: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:٧٢].
وعلى هذا فلا يستقيم الاستدلال.
ثانيا: لو سُلِّم بأن المراد من الآية رفع الدرجات والمنزلة في حق إدريس عليه السلام فلا يلزم أن يكون ذلك مدلول الآيات الواردة في عيسى عليه السلام؛ لأنها صريحة في رفع الجسد والروح معا، لما يأتي:
أن الله تعالى قيد هذا الرفع بأنه إليه حيث قال: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:٥٥]، وقال: بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء:١٥٨]، ومن المتقرر في الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أن الله تعالى في العلو، فيكون رفعه عليه السلام إلى السماء، بخلاف الرفع في حق إدريس عليه السلام فإنه مطلق: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:٥٧]، ويدرك الفرق بين الأسلوبين كل من شم للغة العربية رائحة.