بل إنه في أحد تلك الأوجه نقل الآتي: (ولما علم أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه السلام رُفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده) فماذا سيقول القاديانيون بعد هذا الكلام؟!
أما العبارة الثانية التي نقلوها فإنها موجودة في آخر ذاك الموضع، وهذه عادة أهل الانحراف والهوى يأخذون من الكلام ما يوافق أهواءهم ويغطون ما سواه.
إن الناظر في كلام
الرازي يلحظ أنه قرر عقيدة المسلمين المعروفة بكلام طويل، ثم عقب بهذه العبارة، وتوجيه ذلك عندي أن له محملين:
الأول: أن كلامه هنا عن علو الله تعالى، إذ الرازي ينفي علو الله تعالى على طريقة الجهمية، فيكون تعليقه على كلمة (إلي) في الآية، وليس مقصوده ما يتعلق بعيسى عليه السلام لأنه قد مضى الحديث عنه، وقد قرر عقيدته في ذلك بكل وضوح، ومن ذلك قوله: (وقد ثبت الدليل أنه حي، وورد الخبرعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينزل ويقتل الدجال، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك) ٨/ ٦٠.
الثاني: أن يقال: إنه لا يرى أن هذه الآية تدل على رفع عيسى إلى السماء – فرارا من الإلزام بإثبات علو الله سبحانه – وإن كان يرى أن أدلة أخرى تدل على ذلك، وعدم الدليل المعين لا يعني عدم المدلول، إذ قد يثبت بدليل آخر، ويشهد لصحة هذا التوجيه كلامه المنقول آنفا. والنتيجة أن الرازي يعتقد رفع عيسى ونزوله، فليس في كلامه للقاديانيين مستمسك.
رابعا: جاء في ص٤ - ٥ نسبة هذه العقيدة لابن حزم يرحمه الله، وأنه يرى أن عيسى قد مات، وأحالوا إلى كتابه (الفِصَل) عند كلامه عن المسيحية.
ولا أدري هل هؤلاء يكتبون لأناس لا عقول لهم ولا أبصار، أو أنهم لا يفهمون ما يقرؤن؟ فالكتاب مشهور، ولم يذكر فيه مؤلفه كلمة واحدة مما نسبوه إليه، بل على العكس من ذلك فإنه يقرر رفع عيسى عليه السلام شأنه في ذلك شأن سائر المسلمين، انظر: الفصل ٢/ ٢٠٦ - ٢٢٨.
ألا فليتفضلوا ببيان هذا الكلام المزعوم عنه نصا، مع الإحالة إلى الجزء والصفحة، وإلا فليشهدوا على أنفسهم – وليشهد المسلمون أيضا – أنهم من الكاذبين، ولعنة الله على الكاذبين. خامسا: أحالوا في ص٥ هذا الهراء إلى الألوسي رحمه الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (١)، وإن العجب لا ينقضي من تمادي هؤلاء الضالين في الكذب دون حياء، فالألوسي رحمه الله يقرر عقيدة المسلمين في هذه القضية، واسمع كلامه في تفسيره روح المعاني٣/ ١٧٩: (والصحيح كما قاله القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس).
هذا وقد أحالوا إلى آخرين من مفكري العصر الحديث، أشك في نسبة ما ذكروا إليهم، وقد جُرب على القاديانيين الكذب الكثير، ولا حاجة إلى بذل الجهد في تتبع ذلك؛ لأنه لو ثبتت صحة ما نسبوا إليهم فإنهم ليسوا من الأئمة الذين يُرجع إليهم في مثل هذه القضايا، وهكذا طريقة أهل الأهواء إذا أعيتهم الحيل ذهبوا يبحثون في ركام الزلات وعند خاملي الذِّكر لعلهم يجدون عندهم ما يسند بناءهم المتهدم.
وإني سائل سؤالا أدع إجابته للقاديانيين وحدهم: إن بعض من سميتم وزعمتم أنهم قائلون بموت المسيح عليه السلام قد أدركوا زمن القادياني المتنبئ الكذاب، فماذا كان رأيهم فيه؟ هل كانوا يرونه المسيح والمهدي كما تزعمون؟ أم كانوا يرونه كذابا ضالا كافرا؟ وليتذكروا أنهم وصفوهم بأنهم من علماء الأمة! أجزم أنهم يعلمون الجواب علم اليقين.
(١) رواه البخاري (٣٤٨٣)