للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلهذا المعنى كان ابن مسعود – رضي الله عنه – ينكر على من يقطع بالإيمان ويأمر بالاستثناء فيه لا على المعنى الذي ظنه هؤلاء من أن ابن مسعود يأمر بالاستثناء نظراً للخاتمة. يقول شيخ الإسلام: "وابن مسعود – رضي الله عنه - لم يكن يخفى عليه أن الجنة لا تكون إلا لمن مات مؤمناً وأن الإنسان لا يعلم على ماذا يموت فإن ابن مسعود أجل قدراً من هذا، وإنما أراد سلوه هل هو في الجنة إن مات على هذه الحال؟ كأنه قال: سلوه أيكون من أهل الجنة على هذه الحال؟ فلما قال: الله أعلم قال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية يقول: هذا التوقف يدل على أنك لا تشهد لنفسك بفعل الواجبات وترك المحرمات فإنه من شهد لنفسه بذلك شهد لنفسه أنه من أهل الجنة إن مات على ذلك ... " (١).وقد ذكر في بعض الروايات أن ابن مسعود – رضي الله عنه – رجع عن قوله وهذا بسبب سؤال أورده عليه بعضهم وهو: (أنشدك بالله أتعلم أن الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم – على ثلاثة أصناف: مؤمن السريرة مؤمن العلانية، وكافر السريرة كافر العلانية، ومؤمن العلانية كافر السريرة؟) (٢).وفي لفظ أنه قال له: (ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين) (٣).وهذا الذي ذكر هنا غير ثابت عن ابن مسعود – رضي الله عنه -، وقد أنكره غير واحد من أهل العلم، قال أبو عبيد: وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده لأن أصحاب عبدالله على خلافه (٤).وروى الخلال في السنة عن الحسن بن محمد بن الحارث أنه سأل الإمام أحمد (هل يصح قول ابن عميرة أن ابن مسعود رجع عن الاستثناء؟ فقال لا يصح، وأنكر أحمد قولي رجع عن الاستثناء إنكاراً شديداً، وقال: كذلك أصحابه يقولون بالاستثناء) (٥).ثم على فرض ثبوته فقوله إنه من المؤمنين محمول على أصل الإيمان ولهذا يقول أبو عبيد: "إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: ٣٢] ... " (٦).

وبسبب هذا السؤال ظن كثير من المرجئة أن ابن مسعود – رضي الله عنه – رجع عن الاستثناء عندما نظر إلى الحال وأنه كان يقول بالاستثناء عندما كان ينظر إلى الخاتمة والمآل. قال شيخ الإسلام: "ولهذا السؤال صار طائفة كثيرة يقولون: المؤمن هو من سبق في علم الله أنه يختم له بالإيمان، والكافر من سبق في علم الله أنه كافر وأنه لا اعتبار بما كان قبل ذلك، وعلى هذا يجعلون الاستثناء، وهذا أحد قولي الناس من أصحاب أحمد وغيرهم وهو قول أبي الحسن وأصحابه" (٧).

أي: يجعلون الاستثناء بالنظر إلى الموافاة وقد سبق التنبيه إلى أن ابن مسعود أجل من أن يكون ذلك هو مراده، ومقصوده بالاستثناء.


(١) ((الفتاوى)) (٧/ ٤١٧، ٤١٨).
(٢) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (٦/ ١٦٠) قال الألباني في ((الإيمان)) (ص: ٧٣) لابن أبي شيبة: فإسناده إلى ابن مغفل صحيح، وأما إلى ابن مسعود فضعيف.
(٣) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: ١٨) قال الألباني: فيه رجل لم يسم.
(٤) ((الإيمان)) (ص: ٦٩).
(٥) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٩).
(٦) ((الإيمان)) (ص: ٦٩).
(٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٤١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>