وقال:(فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا مؤمنا به). ولابن حزم كلام قوي في الرد على الأشاعرة في هذه المسألة، ومن ذلك قوله:(ونقول للجهمية والأشعرية في قولهم: إن جحد الله تعالى وشتمه وجحد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان كل ذلك باللسان فإنه ليس كفرا لكنه دليل على أن في القلب كفرا: أخبرونا عن هذا الدليل الذي ذكرتم، أتقطعون به فتثبتونه يقينا ولا تشكون في أن في قلبه جحدا للربوبية وللنبوة، أم هو دليل يجوز ويدخله الشك ويمكن أن لا يكون في قلبه كفر؟ ولا بد من أحدهما، فإن قالوا: إنه دليل لا نقطع به قطعا ولا نثبته يقينا، قلنا لهم: فما بالكم تحتجون بالظن الذي قال تعالى فيه: إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:٢٨].وقال أيضا: (وأما قولهم: إن شتم الله تعالى ليس كفرا، وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو دعوى؛ لأن الله تعالى قال: يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التوبة:٧٤] فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر. وقال تعالى: أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ [النساء:١٤٠] فنص تعالى أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع. وقال تعالى: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:٦٥ - ٦٦]، فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قوَّل الله تعالى ما لم يقل، وكذب على الله تعالى).وقال:(وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفرا، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفرا. فقلنا لهم: وتقطعون بصحة ما دل عليه هذا الدليل؟ فقالوا: لا). وقال:(وأما سب الله تعالى، فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية، وهما طائفتان لا يعتد بهما، يصرحون بأن سب الله تعالى، وإعلان الكفر ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى. وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن بالكفر وعبادة الأوثان بغير تقية ولا حكاية لكن مختارا في ذلك الإسلام. قال أبو محمد: وهذا كفر مجرد؛ لأنه خلاف لإجماع الأمة، ولحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ومن بعدهم؛ لأنه لا يختلف أحد- لا كافر ولا مؤمن - في أن هذا القرآن هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أنه وحي من الله تعالى- وإن كان قوم من الروافض ادعوا أنه نقص منه، وحُرِّف- فلم يختلفوا أن جملته كما ذكرنا. ولم يختلفوا في أن فيه التسمية بالكفر، والحكم بالكفر قطعا على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:٧٢]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ [التوبة:٧٤]، فصح أن الكفر يكون كلاما. وقد حكم الله تعالى بالكفر على إبليس، وهو عالم بأن الله خلقه من نار وخلق آدم من طين، وأمره بالسجود لآدم وكرمه عليه، وسأل الله تعالى النظرة إلى يوم يبعثون. ثم يقال لهم: إذ ليس شتم الله تعالى كفرا عندكم، فمن أين قلتم: إنه دليل على الكفر؟ فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر؟ قيل لهم: نعم، محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى؛ فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر، ومن قطع على أنه في ضميره وقد أخبر الله تعالى عن قوم: يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:١٦٧]، فكانوا بذلك كفارا، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كفار بالله تعالى قطعا بيقين، إذ أعلنوا كلمة الكفر).
المصدر:الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - ١/ ٢٥٧