للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحا، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء يمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: ١٠٣] حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك: ((أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك وسخط على صاحبيك)) (١) , فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به. وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" (٢).

وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقا فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان: أحدهما: كون الفعل ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل (٣).

الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:

- فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.

- والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قيل فيه افعل، والقبيح ما قيل لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.- جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول (٤).وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة (٥).

والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" وفي القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقط. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا.


(١) رواه البخاري (٣٤٦٤) , ومسلم (٢٩٦٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٤٣٤ - ٤٣٦).
(٣) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٩٠، ٣٠٩ - ٣٠١)، و ((منهاج السنة)) (١/ ٣٦٤) – مكتبة الرياض الحديثة.
(٤) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٦٧٧ - ٦٨٦، ١١/ ٦٧٦ - ٦٧٧).
(٥) انظر: ((التسعينية)) (ص: ٢٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>