للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الثالث: ثم إن هذا التقسيم يعلم الأشاعرة بطلانه، فهم يقولون عن الفعل الواقع بلا مرجح: إنه اختياري، وعن فعل المكلف الواجب وإن لم يقع بقدرة مؤثرة منه فيه: إنه لا يخرج عن كونه اختيارياً! فكان الواجب إذاً عدم إيراد هذه الحجة، فإن قالوا هي إلزامية – فجوابهم: إننا لا نلتزم بشيء مما ذكروه فلا يرد إذاً هذا الإلزام الذي ذكروه. الدليل الثاني: قالوا: إن الكذب لو كان قبيحاً لذاته لوجب أن يكون كذلك في كل صورة – كالكذب لإنجاء نبي، ومعلوم أن الكذب هنا واجب فلزم أن يكون حسناً، ومثل ما قيل في قول الكذب، كذلك يقال في الفعل كالقتل فإنه قد يكون حسناً كالقصاص، وقد يكون قبيحاً إذا كان ظلماً، فلزم من هذا أنه لا حسن ولا قبيح ذاتيين يدركهما العقل (١).

والجواب: إن المراد من كون الفعل حسناً أو قبيحاً لذاته أو لصفته هو كونه منشأً للمصلحة والمفسدة، وترتيب المصلحة والمفسدة على الفعل كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها (٢)، وقد علم سابقاً أنه لابد من وجود شروط وانتفاء موانع لاقتضاء الأسباب لمسبباتها، فإذا تختلف شرط أو وجد مانع ما نتج شيء، فكذلك يقال هنا، إن الكذب قبيح ولكن وجد ما نع هنا من الحكم بقبحه في حالة معينة وهو المصلحة الراجحة، وهكذا يقال في الفعل وهو القتل هنا (٣).

وللأشاعرة أدلة أخرى لنفي التحسين والتقبيح العقليين أقر المتأخرون منهم بضعفها، وآثرت ذكر واحد منها لأن له تعلقاً بأفعال الله، وقد يكون هو من أكبر الشبهات الحاملة لهم على نفي الحسن والقبح لذات الفعل أو لوصفه!، وهو:

الدليل الثالث: قالوا لو كان حسن الفعل وقبحه لذاته أو لصفاته للزم أن يكون الباري غير مختار في الحكم! وبيانه: أن الفعل لابد له من حكم شرعي، وهذا الحكم الشرعي إما أن يكون موافقاً للحسن لذاته المعلوم بالعقل أو مخالفاً له، والثاني باطل بصريح العقل لكونه لا يليق بالله تعالى، والأول يلزم منه أن يتعين على الباري الحكم عليه بحسب المعقول ولا يصح تركه وهذا ينافي الاختيار (٤).

والجواب من وجهين: الأول: ما ادعوه من أن حكم الله إذا تعلق بالشيء لكونه حسناً لذاته ينافي الاختياري تلبيس، فإنه لم يتعلق بخلافه – وهو القبيح – لصارف الحكمة، مع أنه قادر عليه، والامتناع لصارف الحكمة لا ينافي الاختيار، كيف والواقع أن إرادته واختياره اقتضت استلزام الحكم للحسن لذاته (٥).الوجه الثاني: إن الأشاعرة يقولون إن خطاب الله – وهو حكمه – قديم لأنه كلام نفسي أزلي فكيف على أصلهم يكون الاختيار، وهكذا يقال في أفعاله التي تعلقت بها القدرة والإرادة تعلقاً صلوحياً أزلياً، فهل يقال على أصلهم هذا: يلزم ألا يكون فعله اختيارياً؟ فما كان جواباً لهم على كل هذا كان جواباً لنا على شبهتهم (٦). والصواب أن جميع ذلك تعلق به اختياره وإرادته فلا يكون اضطرارياً. ومع كل ما تقدم فإن الله تعالى لا يوجب عليه أحد شيئاً، وإنما الله تعالى هو الذي يوجب على نفسه بوعده الصادق وبما له من الأسماء الحسنى والمحامد العظيمة، ولا جوز إيجاب شيء أو تحريمه على الخالق بالقياس على خلقه (٧).

ثم إن بعض الأشاعرة حاول أن يقرب الشقة فذكر بأن الحسن والقبح يرادان لثلاثة معان:

الأول: صفة الكمال والنقص فيقال: العلم حسن والجهل قبيح.

الثاني: ملاءمة الغرض ومنافرته – أو بتعبير آخر:- المصلحة والمفسدة، ويختلفان بالاعتبار.

الثالث: تعلق المدح والثواب أو الذم والعقاب. قالوا: فالأولان عقليان، والثالث شرعي فقط، وهذا هو محل النزاع (٨).

والتعليق: هذا التقسيم صحيح، ولكن أن يقال: محل النزاع في الثالث فقط، فكلام يشك فيه، إذ لو كان كذلك فلم أوردوا تلك الشبهات لنفي الحسن والقبح لذات الفعل؟، فالذي يظهر أن محل النزاع هو: "هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه بحيث ينشأ الحسن والقبح منه، فيكون منشأ لهما أم لا؟ " (٩)، أما محل النزاع الذي ذكروه فإنه مع المعتزلة فقط. وكذلك يمن اعتبار قائل محرر النزاع تراكاً لقول القدماء الذين غلوا في نفي تحسين العقل وتقبيحه.

المصدر: منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – ١/ ٣٣٩


(١) انظر ((المواقف)) للإيجي (ص: ٣٢٥) و ((شرح المقاصد للتفتازاني)) (٤/ ٢٨٥).
(٢) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ٣٧) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: ١٠٢).
(٣) انظر ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ٣٧) و ((الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى)) (ص: ١٠٢).
(٤) انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (٤/ ٢٨٨).
(٥) انظر ((مفتاح السعادة)) (٢/ ٣٨) و ((شرح المقاصد)) (٤/ ٢٨٨).
(٦) انظر ((شرح المقاصد)) (٤/ ٢٨٨) و ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ٣٨).
(٧) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (٢/ ٧٧٦ - ٧٧٧).
(٨) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص: ٣٢٣ - ٣٢٤).
(٩) قاله ابن القيم في ((مدارج السالكين)) (١/ ٢٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>