للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتقدم في المبحث السابق كيف أنكر الصحابة الكرام على من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعارضه برأيه إذ الأمر من الله بالتسليم لقول الله وقول رسوله, والنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله, والنهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:١]، ويقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:٢] يقول ابن القيم: فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه أليس هذا أولى أن يكون محبطا لأعمالهم (١).ويقول: لذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يعارضون نصوص الوحي بالرأي بل كانت النصوص أجلّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس ولكنهم كانوا يستشكلون بعض النصوص ويوردون استشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عليها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولاً يعارض النص ألبتة ولا عرف فيهم أحد – وهم أكمل الأمة عقولاً – عارض نصاً بعقله (٢).يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه (٣).لذلك كان منهج الصحابة رضي الله عنهم في الفتيا أنه إذا عرضت لأحدهم مسألة وسئل عنها نظر فإن كانت في الكتاب والسنة قضى وإن لم يجد فيها قولاً سأل من هو أعلم منه هل عندك علم من كتاب أو سنة؟ فإن لم يجد جمع أهل العلم واستشارهم فإن اجتمع رأيهم على شيء قضى به (٤).وهذا الرأي الذي يصير إليه الصحابة عند عدم وجود النص هو من الرأي المباح إذ الرأي على ثلاثة أقسام (٥):

القسم الأول: رأي يعين على فهم الكتاب والسنة ورد الأصول إلى الفروع وإلحاق النظير بنظيره وهذا هو الرأي الصحيح الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين.

ولقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما يوصيه ويقول: اعرف الأشباه والأمثال وقسْ الأمور.

القسم الثاني: الرأي الذي يصار إليه إذا تعذر أن يجد حكماً للواقعة في الكتاب وفي السنة ولم يقل به أحد من الصحابة فحينها يجتهد العالم رأيه. وهذا النوع هو موضع الاشتباه والذي سوّغ الصحابة العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه, حيث لا يوجد منه بُد, وهذا الرأي لا نعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته لهما فغايته أنه يسوغ العمل به عند الحاجة إليه, من غير إلزام للعمل به ولا إنكار على من خالفه.

لقي عمر بن الخطاب رجلاً فقال له ما صنعت؟ قضى علي وزيد بكذا، فقال لو كنت أنا لقضيت بكذا. قال فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال علي وزيد.

فهذا هو المنهج وهذا هو الأدب واحترام الرأي الآخر إن كان رأياً بشرياً مشتركاً لا يعارض نصاً شرعياً فيحترم هذا الرأي ولا يسفّه ولا يحقّر قائله أو ينقص منه وإن كان مخالف لذلك لم يكن الصحابة يصوّبون آرائهم ويقطعون بأنها الحق فهذا أبو هريرة إذا قال في شيء برأيه قال: هذه من كيسي ...

أما إن كان الرأي يخالف نصاً من كتاب أو سنة فلا هوادة في دين الله ولا حرية لهذا الرأي بل هو رأي مذموم مردود، والمعوّل والمقدّم هو قول الله وقول رسوله وهو الحق.

القسم الثالث: الرأي المذموم وهو باطل بلا ريب وليس من الدين وهو ما جاءت النصوص بذمه والنهي عنه، وهو ما عابه السلف ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وهو أنواع وعلى درجات منها:

الرأي المخالف للنص وهو أعظمها جرماً وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه ولا تحل الفتيا به وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.

الكلام في الدين بالخرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها.

الرأي المبتدع وهي البدع المخالفة للسنن.

من الرأي المذموم: الانشغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها أو استعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت وشققت قبل أن تقع ...

موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص٢٢٢


(١) ((أعلام الموقعين)) (١/ ٥١).
(٢) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص١٣٦ - ١٣٩) باختصار وتصرف.
(٣) ((أعلام الموقعين)) (١/ ٥٨).
(٤) ((أعلام الموقعين)) (١/ ٥٦).
(٥) انظر: ((أعلام الموقعين)) (١/ ٥٣ - ٦٦ - ٨٥). إذ بسط ابن القيم الحديث عنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>