للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أقوى الأسباب التي جعلتهم يصلون إلى هذه المرحلة:-السبب الأول: شعورهم العميق بأن القرآن جاء موافقاً لما في الفطرة من إثبات صفات الكمال لله تعالى – وإن كانوا قد توهموا أنها تفيد التشبيه!، فمن أقوالهم في ذلك قول الرازي في ذكره لأسباب إيراد المتشابهات! في القرآن، فقال: "الخامس: وهو السبب الأقوى: أن القرآن مشتمل على دعوة الخواص، والعوام تنبوا في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق العقلية المحضة، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه!!، ظن أن هذا عدم محض فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب مما تخيلوه وتوهموه، ويكون مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح، فالقسم الأول: وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات، والقسم الثاني: وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر وهو المحكمات!! " (١) اهـ. فالرازي بكلامه هذا يحوم على أن ما عند المتكلمين إنما حصل بالمران على أقيستهم وشبهاتهم العقلية، وأن العوام لا يبلغون ذلك لمخالفته لمقتضى الفطرة، ولا يخفى كذلك ما ذكره من عبارات مجملة في كلامه المنقول، حيث استبدل الألفاظ الشرعية بعبارات فيها نظر، وهذه الألفاظ الشرعية هي الواردة في القرآن كما أشار في مطلع حديثه، وهي التي توافق فطر الناس. السبب الثاني: شعورهم العميق بأن أحاديث الصفات لا يمكن تأويلها، ومن ذلك قول الرازي نفسه عند تعداده للأوجه الموجبة لترك الاستدلال بأخبار الآحاد كما زعم فقال: "إن الأخبار المذكورة في باب التشبيه بلغت مبلغاً كثيراً في العدد، وبلغت مبلغاً عظيماً في تقوية التشبيه، وإثبات أن إله العالم يجري مجرى إنسان كبير الجثة عظيم الأعضاء!، وخرجت عن أن تكون قابلة للتأويل" (٢) اهـ.

فللسببين السابقين كانوا يردون النصوص أو يبالغون في تحريفها تعظيماً لجانب العقل، ثم لم يسلم لهم العقل، وهذا هو السبب الثالث.

السبب الثالث: إنهم قد عظموا جانب العقل جداً ولم يراعوا حدوده، فلما تعمقوا شعروا بالقصور والحيرة والشك، فلم يكن أمامهم إلا الرجوع إلى الشرع والتمسك به وبما كان عليه سلف الأمة، فالتمسك بالشرع لأنه قائم على الحق، ولأنه يدعو بأيسر الطرق، ولأنه يدعو إلى التسليم وعدم التعمق والتنطع، والتمسك بما كان عليه السلف: لأنهم المشهود لهم بالخيرية.

المصدر:منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - ٢/ ٦٧٠


(١) ((أساس)) التقديس للرازي (ص: ١٩٢) ولا يخفى أن تقسيمه الأخير مجرد تخرص ليس عليه أثارة من علم، فمن أين له هذا الترتيب في نزول الأخبار الذي زعمه!
(٢) ((المطالب العالية)) للرازي (٩/ ٢١٣)، وعبارته التي ذكرها تؤكد حقيقة كبرى وهي أن كل معطل ممثل فهو قد عطل صفات الله بعد أن اعتقد مشابهتها لصفات الخلق! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

<<  <  ج: ص:  >  >>