للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أبو الحسن الكرخي: " إن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه ".ثم قال: " الأصل أن الحديث إذا ورد عن الصحابي مخالفا لقول أصحابنا فإن كان لا يصح في الأصل كفينا مؤنة جوابه وإن كان صحيحا في مورده فقد سبق ذكر أقسامه إلا أن أحسن الوجوه وأبعدها عن الشبه أنه إذا ورد الحديث عن الصحابي في غير موضع الإجماع أن يحمل على التأويل أو المعارضة بينه وبين صحابي مثله" (١).وقول الماتريدية ومن وافقهم بعدم حجية أحاديث الآحاد في العقائد قول لا أصل له بل هو مبتدع محدث فتقسيم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى متواتر وآحاد تقسيم لم يكن معروفا في عصر الصحابة والتابعين كما أن القول بأن خبر الواحد لا يفيد العلم قول ابتدعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأحاديث ورفضها لأنها حجة عليهم (٢) فإن أشهر من عرف عنه اشتراط العدد في صحة الحديث هو إبراهيم بن إسماعيل بن علية (٢١٨ هـ) وهو كما قال الذهبي: " جهمي هالك كان يناظر في خلق القرآن " (٣). وقد نص الإمام الشافعي رحمه الله على إجماع المسلمين على حجية خبر الواحد في الرسالة حيث قال: " ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديما وحديثا على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي " (٤). وقال بعد أن نص على حجية خبر الواحد: " ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل" (٥).والقول بحجية خبر الواحد في العقائد والأحكام هو مذهب الإمام مالك رحمه الله كما ذكره عنه محمد بن أحمد المعروف بابن خويزمنداد (٦).وهو أيضا قول الإمام أحمد رحمه الله قال المروذي رحمه الله: "قلت لأبي عبد الله: ههنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما فعابه وقال لا أدري ما هذا ... " (٧).ولا يعرف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال بعدم إفادة خبر الواحد العلم أو أنه فرق في قبوله بين العقائد والأعمال بل الذي ورد عنه قبول الأحاديث بدون تفريق فقد روي عنه أنه قال:"إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لم نحد عنه إلى غيره وأخذنا به" (٨) وهذا هو مذهب أصحاب أبي حنيفة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (٩). وهو أيضا مذهب السلف وجمهور المحدثين والأصوليين كما نص على هذا غير واحد من العلماء.

وقول الماتريدية ومن شاكلهم بأن أحاديث الآحاد لا تفيد العلم لاحتمال الكذب والخطأ والشبهة في كونها خبر الرسول مرده إلى جهلهم بعلم الحديث وأهله فإنه كما يرجع في معرفة الفقه للفقهاء وفي معرفة اللغة لأهل اللغة وكذا في كل صنعة وفن فإنه ينبغي الرجوع في معرفة الحديث لأهل الحديث الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم في حفظ الحديث وصيانته ودراسته وتدريسه.


(١) ((الأصول)) لأبي الحسن الكرخي ملحقة بتأسيس النظر تحقيق مصطفى القباني (١٦٩ - ١٧١).
(٢) انظر ((صون المنطق)) (١٦١).
(٣) ((ميزان الاعتدال)) (١/ ٢٠).
(٤) ((الرسالة)) تحقيق أحمد شاكر (٤٥٧).
(٥) ((الرسالة)) تحقيق أحمد شاكر (٤٥٣).
(٦) ((الإحكام في أصول الأحكام)) لابن حزم (١/ ١٣٢)، ((مختصر الصواعق المرسلة)) لابن القيم (٢/ ٣٦٣).
(٧) ((مختصر الصواعق)) (٢/ ٣٦٣)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (٤٨).
(٨) ((مناقب أبي حنيفة)) للموفق بن أحمد المكي (٧١)، ط دار الكتاب العربي.
(٩) ((الفتاوى)) (١٨/ ١٧، ٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>