للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعليقا على هذا الأثر: " وقديما حرف العامي على الخاص: هذا ابن عمر كان يكره صوم رجب كله إما حذرا أن يعتقد الجاهل أنه مفروض، وإما حذرا أن يعتقده سنة ثابتة مؤقتة، فقال الناس: حرم ابن عمر صيام رجب، وهذا التحريف ديدن الناس اليوم، والله المستعان " (١).وصدق الإمام الطرطوشي فهذا التحريف ديدن الناس اليوم! لذلك يجب على العلماء والأمراء ورؤوس الناس البعد عن مواطن الشبه، والحذر من الأمر الملتبس وإن كان في نفسه مباحا، حتى لا يلتبس على العامة لجهلهم وقصر نظرهم، أو لسوء ظن بعضهم، فعلى أولي الأمر دفع الريبة عن أنفسهم وإيضاح الموقف وعدم السكوت أو التأجيل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وذلك أن صفية بنت حيي زوجه جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي, فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبُر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا)) (٢).قال ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث من الفوائد. . التحرز من التعرض لسوء الظن، والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدي به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم " (٣).لذلك لما أبصر عمر رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله وعليه ثوبان ممشقان (٤)، قال له: " ما هذا يا طلحة؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنما هو مدر (٥)، فقال: إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم، ولو رآك أحد جاهل قال: طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم، وإن أحسن ما يلبس المحرم البياض، فلا تلبسوا على الناس " (٦).

كما أنه ينبغي على أولي الأمر: علماء وأمراء، وعلى المعارضين لهم: أن يفتحوا باب الحوار والنقاش للنظر في سبب الخلاف بينهما ووجه الاعتراض، وطرح كل أوجه النقد ومناقشتها لتجلية الموقف، فإن كان فيه لبس وضح، وإن كان العالم أو الأمير أو الرئيس مخطئا تراجع عن خطئه؛ إذ لا عصمة لأحد من الناس إلا الأنبياء. إن ترك الحوار والاستفهام، وترك التثبت يجلب الفتنة والمحنة للأمة، واعتبر بما حدث مع عثمان رضي الله عنه ومع الخارجين عليه المخالفين لأمره، إذ طلب عثمان رضي الله عنه – وهذا من فقهه وعلمه - في بادئ الأمر أن يستعتبوه، وأن يعرف منهم سبب غضبهم وخروجهم عليه، ويسمعوا له ويفهموا سبب فعله، ولما حدث الحوار بين الطرفين تمهدت الأعذار، وانزاحت العلل، ولم يبق لهؤلاء الخارجين الثائرين شبهة، خاصة من كان من الأتباع المخدوعين المغرر بهم، فما أن سمعوا قول عثمان رضي الله عنه وحجته إلا عرفوا الحقيقة واقتنعوا ورجعوا إلى ديارهم (٧).

لكن أصابع الفتنة ما زالت تعبث بعقول العامة، وتنشر الفرقة في جسد الأمة مستعملة الكذب والوشايات والتزوير، فما أن قفلت الجموع الثائرة على عثمان رضي الله عنه إلى ديارهم راضية مقتنعة، إلا بعثت الكتب المزورة في أثرها تغريها بالرجوع، فكان ما كان من عودتها وحصارها لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتله محصورا شهيدا رضي الله عنه وأرضاه.

فهذه الجموع الثائرة لم تنصت لصوت الحق دائما، ولم تتثبت وتتبين في كل مرة، ولم تتحاكم إلى قول الله ورسوله, بل جعلت الهوى لها قائدا والكذب حجة فضلت وأضلت، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المصدر:موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص٢٧٧ - ٢٩١


(١) كتاب الحوادث والبدع (ص ١٤١).
(٢) رواه البخاري (٢٠٣٥).
(٣) ((فتح الباري)) (٤/ ٢٨٠).
(٤) أي مصبوغ بالمشق وهو المغرة وهو صبغ أحمر. انظر ((لسان العرب)) (١٠/ ٣٤٥)، النهاية في غريب الحديث (٤/ ٢٨٥).
(٥) أي مصبوغ بالمدر، والمدر: الطين اليابس، انظر النهاية في غريب الحديث (٤/ ٢٦٧)، ((لسان العرب)) (٥/ ١٦٢).
(٦) انظر ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (٣/ ٢٢٠).
(٧) انظر حاشية ((العواصم من القواصم)) لمحب الدين الخطيب (ص ١٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>