ومن تأمل ذلك أفاده علماً ضرورياً بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم تنقله كل طائفة عن صاحبها، وهذا أمر وجداني عندهم، لا يمكنكم جحده؛ بل هو بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض، حتى إنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه، ويباهون من خالفهم عليه. وقول هؤلاء القادحين في الأخبار والسنن:"يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين" بمنزلة قول أعدائه: "يجوز أن يكون الذي جاء به شيطاناً كاذباً" ... فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث، كانوا مكابرين لهم ... والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق، فيها فائدة وينبغي العدول إلى ما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من المباهلة، قال الله تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:٦١](١).
قلت: رحم الله ابن القيم الإمام وشيخ الإسلام ورفعهما مكانا عليّا؛ فقد عرفا حقيقة هؤلاء المتكلمين من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية أفراخ الجهمية المعطلة.
الوجه الرابع:
أن نقول: لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحادٍ، لكن لا نسلم أنها أخبارُ أحادْ مجردةٌ ظنيةٌ، بل هي قطعيةٌ، لأنها موافقة لكتاب الله تعالى، والعقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف في الدلالة على صفات الله تعالى، كعلو الله تعالى على خلقه، واستوائه، على عرشه، ووجهه الكريم، ويديه، ورضاه، وغضبه، ومحبته وكراهيته، وغيرها من صفات الله تعالى، التي تنفى حقائقها الماتريدية ويحرفون نصوصها؛ فقد جاءت بها نصوص كتاب الله كما جاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فحينئذ لا يصح زعمهم:"أن تلك الأحاديث أخبارُ آحادٍ وهي ظنية، لا تثبت بها العقيدة" لأن أحاديث الصفات ليست مجردة عن موافقتها العقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف ومطابقتها لكتاب الله؛ ولأن تلك الصفات ثابتة بنصوص كتاب الله تعالى الصريحة مع موافقتها للعقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف، فيكون مجييء الأحاديث بتلك الصفات من قبيل توافر الأدلة، وتواردها على مدلول واحد، وفيما يلي نبذة من كلام أئمة السنة:
١ - قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
"هذه الأخبار الصحيحة في هذا الباب يوافقها القرآن ويدل على مثل ما دلت عليه، فهي مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية والحديث مع الحديث، المتفقين وهما كما قال النجاشي في القرآن: "إن هذا والذي جاء به موسى من مشكاةٍ واحدة"؛
ومعلوم أن مطابقة هذه الأخبار للقرآن وموافقتها له أعظم من مطابقة التوراة للقرآن.
فلما كانت الشهادة بأن هذه الأخبار والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة فنحن نشهد لله على ذلك شهادةً على القطع والبت إذا شهد خصومنا شهادة الزور أنها تخالف العقل.
وما يضرها أن تخالف العقول المنكوسة إذا وافقت الكتاب وفطرة الله التي فطر عباده عليها والعقول المؤيدة بنور الوحي.
وكذلك شهادة ورقة بن نوفل بموافقة القرآن لما جاء به موسى ... كان قوله: المبطل: "هذه الأحاديث لا تفيد العلم" - بمنزلة قول من قال في قصص القرآن "إنها لا تفيد العلم".
(١) ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص ٤٧٠ - ٤٧٢)، الطبعة الجديدة و (٢/ ٣٥٥ - ٣٥٩)، الطبعة القديمة و (ص ٤٥٣ - ٤٥٥)، ط/ دار الكتب العلمية.