للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء ويذمونهم بذلك. قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يمينا وشمالا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء " (١).وصدق أبو العالية رحمه الله، فهذه الأهواء المذمومة قد فرقت الأمة، وفككت كيان الجماعة المسلمة، ولقد أخبرنا عن ذلك محمد صلى الله عليه وسلم لنحذر منها، ونجانبها، ونلزم الجماعة المسلمين، ونسلك الصراط المستقيم، ففي الحديث عن معاوية بن أبي سفيان قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر: ((إن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقا ولا مفصلا إلا دخله)) (٢).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا: ((إن مما أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم، ومضلات الأهواء)) (٣). ولقد أنكر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على الرجل الذي قال له: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم، فقال له ابن عباس: " الهوى كله ضلالة " (٤).وها هو ذا عبد الله بن عمر يقول: " ما فرحت بشيء من الإسلام أشد فرحا بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء " (٥).

وليعلم أن النهي عن اتباع الهوى نهي يشمل: هوى الشهوات وهو داء العصاة، الذي يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق كفسق الأعمال ونحوها وهو الاستمتاع بالخلاق.

وهوى الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وهو يقع بالاعتقاد الباطل كالبدع ونحوها، وهو الخوض في الباطل.

وهما مذكوران في قوله تعالى: كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [التوبة: ٦٩].

ولقد كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه. والدواء لهذين الدائين يكون بالصبر واليقين كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: ٢٤]. فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات " (٦).


(١) ((الاستقامة)) لابن تيمية (١/ ٢٥٣ – ٢٥٤)، وانظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (١/ ٩٧).
(٢) كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (١/ ٧)، وصححه الألباني.
(٣) كتاب ((السنة)) لابن أبي عاصم (١/ ١٢)، وقال الألباني: إسناده صحيح.
(٤) كتاب ((الشريعة)) للآجري (١/ ٤٤٤)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١/ ١٣٠).
(٥) شرح ((أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (١/ ١٣٠).
(٦) انظر ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (١/ ١١٨ - ١٢٣) باختصار وتصرف، ((إعلام الموقعين)) (١/ ٦٨، ١٣٦)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب الحنبلي (٢/ ٣٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>