للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد رهنَّا في فصل التأويل على أن تأويل نصوص الصفات بدعةٌ في صميم الإسلام، وخروجٌ على إجماع أئمة الإسلام، وأن مقالة التأويل في الأصل مقالةُ الكفارِ، وأنها تستلزم تعطيل الصفات وتحريف نصوصها، وأنها طريق إلى الزندقة والإلحاد. ولقد تصدى شيخ الإسلام لإبطال حمل نصوص علو الله تعالى وفوقيته على المجاز فأجاد وأفاد (١)، وهكذا للإمام ابن القيم رحمه الله مباحثُ قيمةٌ في إبطال تأويلات نصوص فوقية الله تعالى وعلوه سبحانه فارجع إليها (٢).

وللإمام ابن أبي العز (٧٩٢هـ) والعلامة محمود الآلوسى (١٢٧٠هـ) وابنه نعمان الآلوسي (١٣١٧هـ) وحفيده العلامة شكرى الآلوسي (١٣٤٢هـ) كلمة قيمة قاضية على تأويلات الماتريدية وأمثالهم لنصوص "علو الله سبحانه وفوقيته" أنقلها لما فيها من عبرةٍ بالغةٍ وهم من كبار الحنفية وأئمتهم، واللفظ للآلوسي الجد:

"وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية لله بأن "فوق" بمعنى "خير وأفضل" كما يقال: "الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم" وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة؛ فإن قول القائل ابتداءً" الله خير من عباده" أو "خير من عرشه" من جنس قوله "الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار" ونحو ذلك.

وليس في ذلك أيضاً تمجيد ولا تعظيم لله تعالى، بل من أرذل الكلام، فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه ...

على أن في ذلك تنقيص لله تعالى شأنه ففي المثل السائر:

ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا ... قيل: إن السيف أمضى من العصى

"والفوقية" بمعنى "الفوقية في الفضل" مما يثبتها السلف لله تعالى أيضاً وهي متحققة في ضمن "الفوقية المطلقة" وكذا يثبتون "فوقية القهر والغلبة" كما يثبتون "فوقية الذات" ويؤمنون بجميع ذلك، وليسوا كمن - يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض" (٣).

قلتُ: لا حاجة إلى مزيد من الرد على تأويلات الماتريدية بعد كلام هؤلاء الأئمة لكني أود أن أشير إلى نكتة تتعلق بهذا المقام وهي:

أنه لا يمكن لأحدٍ إثبات "علو المكانة وعلو الشأن" لله سبحانه وتعالى إلا أن يعترف لله تعالى بعلو الذات والعلو حقيقةً؛ لأن نفي العلو الحقيقي الذاتي - عن الله تعالى - نفٌي لعلو الشأن والمكانة عنه سبحانه بالطريق الأولى والأحرى لكن التأويل التالي باطل فالمقدم مثله.

الحاصل: أن علو الله تعالى ثابت بنصوص الكتب السماوية الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأن الماتريدية قد خرجوا عليها، وأن تأويلها باطل محض، لأنه تحريف لها وتعطيل لهذه الصفة، وإبطال لها؛

حتى بشهادة إمامهم "الأعظم" حيث قال:

"ولا يقال: غضبه: عقوبته، ورضاه، ثوابه".

وقال أيضاً:

"ولا يقال: إن يده: قدرته، أو: نعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال".

وهذا برهان باهر،، وسلطان قاهر،، على أن تأويل صفة بأخرى - كما تفعله الجهمية الأولى وأفراخهم من الماتريدية والأشعرية - تعطيلٌ للصفات وإبطالٌ لها وتحريفٌ لنصوصها وتخريفٌ للعقيدة.

فواعجباً للفنجفيري القائل غالطاً جاهلاً،، أو مغالطاً متجاهلاً: الخلف المؤولون لا ينكرون الصفات بل الصفات عندهم ثابتةٌ مثل ما ثبت عند السلف؛ فهم من أهل السنة لا يخرجون منهم (٤).

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

المصدر:الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات للشمس السلفي الأفغاني ٢/ ٤٦٣


(١) انظر ((المراكشية)) (ص ٣٩)، وما بعدها، و ((ضمن مجموع الفتاوى)) (٥/ ١٦٧)، وما بعدها.
(٢) ((مختصر الصواعق)) (٢/ ٢٠٥ - ٢١٧)، ط القديمة، و: ((ص ٣٦٩ - ٣٧٨)، ط، الجديدة: و (ص ٣٥٥ - ٣٦٣)، ط/ دار الكتب العلمية "١٤٠٥هـ".
(٣) ((شرح الطحاوية)) (ص ٣٢٣ - ٣٢٤)، ((روح المعاني)) (٧/ ١١٦)، ((جلاء العينين)) (ص ٣٥٨)، ((غاية الأماني)) (١/ ٤٤٦)، وأصل الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله انظر ((مختصر الصواعق المرسلة)) (٢/ ١٤١ - ١٤٢، ٢٠٦)، ط/ قديمة و: (ص ٣٢٩ - ٣٣٠، ٣٧٠)، ط/ جديدة و (ص ٣١٥ - ٣١٦، ٣٥٥)، ط/ دار الكتب العلمية.
(٤) ((تنشيط الرستمي)) (ص ٣٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>