للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما أبان الله في هذه السورة، كيف كانت عاقبة العاصين، وخاتمة الصالحين، أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- ومن اتبعه، قائلًا {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي استقم على دين ربك والعمل به، والدعاء إليه كما أمرك ربك، أي دم على ما أنت عليه من الاستقامة {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} من الشرك والكفر، وهو عطف على ضمير الرفع في استقم {وَلَا تَطْغَوْا} ولا تخرجوا عما حد لكم، أو لا تغلوا في الدين، فتتجاوزوا ما أمرتكم به {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم عليه، وهذا في معنى التعليل للأمر والنهي، قال ابن عباس ما نزلت آية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال: (شيبتني هود وأخواتها).

{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، ولا تميلوا إليهم أدنى ميل، فإن الركون هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، والميل بالقلب إليهم، وطاعتهم ومداهنتهم، وتكثير سوادهم والرضا بأعمالهم، {فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} أي فتصيبكم النار بحرها، كما يحصل اليوم في الأقطار الإسلامية، من التشبه بالفرنجة، وتقليدهم ومداهنتهم، والتزي بزيهم واحترام تجارتهم وآرائهم وأخلاقهم، وفسوق الفاسقين منهم، فلذلك حكم الله على أكثر الأقطار الإسلامية، أن يصيبها نار الاستعباد في الدنيا، والذل والفقر والاحتلال والاختلال، والنذالة والضعف والجبن والخوف، وهذه مقدمة لعذاب جهنم {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: ٧٢].

وقد بينا في هذا التفسير، في مواضع كثيرة، أن الفرنجة ضحكوا على ذقون الشرقيين الغافلين، وألبسوهم ثوب المذلة والعار، ومزقوهم شر ممزق، وكل ذلك لأنهم ركنوا إليهم وصدقوهم، ولقد قدمت أنهم أشبه بالمسيح الدجال، فإنهم يظهرون جنة اللذات، ويخفون نار الاستعباد وقد ركن كثير من الأمراء إلى نار شهوات المال، الذي يعطونه لهم، أو الألقاب الحقيرة الكاذبة التي يسمونهم بها، أو الوسامات التي يعلقونها على صدورهم، فأوقعوهم في نار الاستعباد والمذلة

<<  <  ج: ص:  >  >>