للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجمادات والنباتات أتم مشاهدة، وهو في عالم الحيوانات أقل ظهورًا لما متعت به من الحس والحركة، وهو في العالم الإنساني يحتاج لتأمل ونظر، فلو قلت للمتوحش: إن كل حركة وسكنة فيك تابعة لقانون ثابت شك في قولك إنْ لم يكن أخذه من طريق الدين بالتسليم.

اتحد الدين والعلم الطبيعي على أن الإنسان مجبر على أفعاله حتى إن أحد رؤوس الماديين العصريين بوشنر الألماني قال إن الحرية الإنسانية التي اعتبرها الروحيون مبدأ للاختيار والإرادة وهمٌ باطل، فإن الإنسان في ذاته حادث طبيعي محكوم بالطبيعة التي كونته والمناخ الذي ربّاه، والوسط الذي يقله، والجنس الذي نشأ منه، والتربية التي غرست فيه من صغره.

يتصدق الرجل منا مثلًا، فإن سألته عن السبب الذي حمله على التصدق قال لك: إرادتي، فإن سألته: وما الذي حمل إرادتك؟ قال: شفقتي، فإن قلت: وما الذي أوجد لك الشفقة دون جارك، قال: ورثتها عن أبي وجدي، أو من طبيعة مزاجي.

فإن سألته: ومن الذي أوجد لك هذا المزاج وصوّر أباك شفيقًا؟ قال: الله تعالى بما أوجده من عوامل، إذن فقد حكمتما بأن الباعث للصدقة في الواقع هو الله، وهكذا تستطيع أن تصعد بسائر أعمالك إلى موجدها الله سبحانه وتعالى.

هذا معنى القضاء والقدر، وهو معنى قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: ٥٩]، وبعد أن أثبت الله تعالى علمه بالجزئيات قرر في آية أخرى بأن كل الحوادث هو فاعلها، فقال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: ٧٨] وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: ٩٦].

<<  <  ج: ص:  >  >>